ليست دعوة طوباوية بل تذكير بالمسؤولية الإنسانية
الحياة -٢١ مايو/ أيار ٢٠١٥
خلال العام الماضي وحده مات خمسة آلاف شخص من المهاجرين من بلدان العالم الثالث غرقاً أثناء محاولاتهم العبور إلى أوروبا وأستراليا، ثلاثة آلاف منهم في البحر المتوسط. وقبل الإقدام على المغامرة، كان المهاجرون يعرفون حجم المخاطرة ويدركون أنها مجازفة قد تودي بحياتهم، لكنهم مع ذلك كانوا مستعدين لها لأنهم مصممون على العيش حياة أفضل من تلك التي يعيشونها في بلدانهم، وكأن لسان حالهم يقول «فإما حياة تسر الصديق وأما ممات يغيظ العدا»! في السابق كان الناس يستقرون في أماكن سكناهم الأصلية لقرون من الزمن، مقتنعين بما لديهم وسعداء بمن معهم. أما اليوم فالاستقرار لم يعد خياراً حتى عند أقل الناس تعليماً. وسائل الاتصالات عرّفت الناس بما يجري في بقية بلدان العالم من حياة مرفهة وحريات مدنية وسعادة إنسانية تليق بكرامة بني الإنسان، وقد أصبح الناس جميعاً مصممين على بلوغها في أقصر فترة ممكنة ومهما كلفهم ذلك من ثمن.
حكومات البلدان الغنية تتحمل مسؤولية كبرى لهذه المأساة الإنسانية المتفاقمة ولم يعد ممكناً من الناحية الأخلاقية أن تبقى متفرجة، فهذا ليس حلاً ولم يعد مقبولاً ولن تقبل به حتى شعوب هذه البلدان التي ترى المأساة تتكرر كل يوم على شاشات تلفزيوناتها وعلى سواحلها وفي شوارع مدنها. لا بد من القيام بإجراء عاجل وناجع يخفف من معاناة الفقراء والمظلومين في العالم الثالث ويخلّص البلدان الغنية من المسؤولية الأخلاقية. مثل هذ العمل لا يتضمن فقط تقديم المساعدات الإنسانية العاجلة كالغذاء والدواء للمنكوبين، بل يجب أن يتضمن تنظيم برامج تعليم وتدريب والبدء باستثمارات طويلة الأمد لتخفيف المعاناة وتمكين الفقراء في بنغلادش مثلاً من أن يعيشوا في بلادهم بكرامة تليق ببني البشر ولا يخاطرون بالغرق في غمار البحار من أجل لقمة العيش كما هو حاصل حالياً. كما تتطلب المساعدة أيضاً رفع الظلم الذي تتعرض له الأقليات في بعض البلدان كالذي تتعرض له أقلية الروهينجيا المسلمة في بورما التي غرق العديد من أبنائها خلال الأسابيع الماضية أثناء محاولتهم الهرب من جحيم الاضطهاد في بورما.
أما بالنسبة إلى حكومات بلدان العالم الثالث فالحل بالتأكيد لا يكمن في الاستمرار في سياساتها وإجراءاتها الحالية التي لم تعد مناسبة أو عملية أو حتى لائقة بالكرامة البشرية، سواء كانت إجراءات سياسية تتعلق بحرمان الناس من الحريات المدنية أم سياسات اقتصادية قاسية لا تمكِّن الفقراء من العيش بكرامة. المسؤولية مشتركة بين العالم المتقدم والعالم الثالث إلا أن المسؤولية الكبرى تقع بالتأكيد على البلدان التي تمتلك القدرات المالية والتقنية على المساعدة.
البنك الدولي يتوقع في تقرير له حاجة إلى خلق 600 مليون فرصة عمل في العالم خلال السنوات العشر المقبلة من أجل التعامل مع النمو السكاني الحاصل في بلدان العالم الثالث. ولا يمكن توفير هذه الفرص إلا عبر برامج عملية مدروسة في مجالات التعليم والطاقة والصحة والاتصالات والمواصلات. لا بد أن تتضمن هذه البرامج تعليم المرأة كي تتمكن من التخطيط لأسرة جيدة قادرة على النهوض بأعباء الحياة العصرية، وإدخالها سوق العمل كي تتمكن من رفد عائلاتها الفقيرة بما تحتاجه من المال والثقافة اللازمة لمواجهة الحياة العصرية المعقدة.
ويجب أيضاً إنشاء مصانع لتوليد الطاقة وتوزيع الكهرباء على الفقراء لأن الطاقة وحدها يمكن أن تتسبب في توفير الأعمال والوظائف وخلق فرص التعليم وتطوير المواصلات والاتصالات والصحة. ولا حاجة للإطناب في تبيان منافع المدارس والمستشفيات وقدرتها على خلق حياة سليمة نافعة وسعيدة. بإمكان دول العالم المتقدمة أن تقوم بهذا وأكثر خلال خطط خمسية وعشرية وربع قرنية كي تقلّص من عدد الفقراء أولاً وتنقذ أنفسها من زحفهم الذي لن يتوقف حتى يتمكنوا من بلوغ الحياة الكريمة التي يحياها نظراؤهم الأغنياء.
حكومات البلدان المتقدمة لديها الآن وزارات «للتنمية الدولية» إلا أن هذه الوزرات لم تفعل الكثير حتى الآن وهناك حاجة ماسة وعاجلة للمزيد. وزيرة التنمية الدولية البريطانية، جوستين غرينينغ، أعلنت الأسبوع الماضي أن لديها برنامجاً كبيراً للتعليم والاستثمار في البلدان الفقيرة ودعت دول العالم إلى الاقتداء ببريطانيا في هذا المجال. إلا أن ما اعتبرته الوزيرة خطوة «ترتقي إلى مستوى التحديات» لا يمكن في الحقيقة اعتباره كذلك خصوصاً أنها خطوات فردية عاجلة وذات مفعول محدود. يجب أن تكون هناك خطوات واثقة وحثيثة وعاجلة ومنسقة للبلدان الغنية العشرين في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية من أجل تقليص الفقر ومحو الأمية ومحاربة القرصنة واستغلال الفقراء والقضاء على المرض والجهل في البلدان الفقيرة.
بلداننا العربية مدعوة هي الأخرى إلى أن تنخرط في هذا الجهد العالمي وتبدأ بمحاربة الفقر في البلدان العربية الأقل غنى التي تزداد فيها علامات انعدام الاستقرار بسبب الفقر والجوع والعنف الذي بدأ ينتشر في كل مكان منذ بدء «الربيع العربي» قبل خمس سنوات تقريباً والذي لم يكن «ربيعاً» إلا بمعنى تقلب الأجواء، لكنه قد يكون بداية لربيع حقيقي عندما ننتبه إلى التنمية الاقتصادية والبشرية والتكامل ونبذ التطرف والقبول بالآخر. هناك من يسعى في بلداننا إلى تأجيج النعرات الطائفية والقومية والمناطقية وإضفاء صبغة دينية وطائفية على خلافات ونزاعات سياسية واجتماعية واقتصادية ومن شأن هذا أن يخرب بلداننا أكثر فأكثر. الأديان السماوية تحث على الوئام والسلام وقضاء حاجات الناس، ومن دعا إلى دين غير هذا فإنه في الحقيقة يدعو إلى إيذاء الجميع في بلده وخارجه.
العالم اليوم يقف على مفترق طرق، فثورة الإنترنت والاتصالات لم تبقِ مخفياً والفقراء في العالم الثالث لن يجلسوا في أكواخهم أو العراء وهم يرون بشراً مثلهم يتنعمون بحياة جميلة بينما هم يتضورون جوعاً ويقاسون من كوارث العواصف والفيضانات والزلازل والمجاعات والأمراض والاضطهاد. سيسعون دون شك لأن يكونوا جزءاً من هذا «العالم الجميل» الذي يرونه في الصور والأفلام وهذا من حقهم وبإمكان نظرائهم في الخلق أن يساعدوهم في ذلك. ليست هذه دعوة طوباوية إلى المستحيل لكنها بالتأكيد تذكير بمسؤوليتنا الأخلاقية والإنسانية الملحة تجاه بعضنا بعضاً. لن يستطيع أي منا أن يعيش حياته بمعزل عن الآخرين وإن سمحت الأزمان الغابرة بذلك فإن ظروف العالم الجديد تحتم التنادي للتكافل والتضامن.
http://www.alhayat.com/Opinion/Writers/9249815/ليست-دعوة-طوباوية-بل-تذكير-بالمسؤولية-الإنسانية