سرايا المتطوعين العراقيين، أو ما يعرف بـ «الحشد الشعبي»، أصبحت القوة الضاربة التي يستعان بها عند الشدائد في العراق، ورغم نقص التدريب والتسليح لديها، فإنها حققت انتصارات على الجماعات الإرهابية كان العراق في أمسّ الحاجة إليها في وقت ضعُفت فيه المعنويات العامة عندما أبدى الجيش عجزاً عن أداء واجبه، بل ربما تخلى عن مواقعه في أكثر من معركة خصوصاً في الموصل والأنبار. وأهم سلاح يمتلكه متطوعو «الحشد الشعبي» هو الحماس والاستعداد للتضحية، وقد قدموا فعلاً المئات من الضحايا خلال المعارك التي خاضوها مع عناصر «تنظيم الدولة» وهم الآن يقفون على حدود الرمادي للدفاع عن بغداد وفي الوقت نفسه يستعدون لخوض معركة تحرير الرمادي ثم الموصل من جماعة «تنظيم الدولة» بعد أن نجحوا في طردها من ديالى وصلاح الدين وبابل
ويشكل الشيعة غالبية هذه القوات التي تشكلت على عجل في العام الماضي بعد الفتوى التي أصدرها المرجع الشيعي آية الله علي السيستاني بوجوب «الجهاد الكفائي» للدفاع عن البلد ضد الجماعات المسلحة عقب صدمة سقوط الموصل تحت سيطرة «تنظيم الدولة». إلا أن عدداً من أبناء السنة، يقدر عددهم بعشرة آلاف مقاتل، وفق نائب رئيس هيئة «الحشد الشعبي»، ثامر التميمي، قد انضموا لهذه القوات للدفاع عن مناطقهم وقد شاركوا بقوة في تحرير محافظة صلاح الدين.
معظم العراقيين يشعرون بالاطمئنان بوجود هؤلاء المتطوعين المندفعين للقتال بعقيدة وطنية ودينية راسخة، بل بالامتنان لهم لأنهم ساهموا في شكل أساسي في ردع الجماعات الإرهابية ووقف تقدمها نحو مناطق أخرى. إلا أنه، ومع كل هذا الاطمئنان والامتنان، هل يمكن أن يصبح المتطوعون بديلاً عن الجيش على الأمد البعيد؟ بالتأكيد كلا، لأن الدولة العصرية تحتاج إلى جيش مهني يجنِّب المدنيين خطر الحروب ويضطلع في شكل مهني في الدفاع عن البلد ومؤسساته وممتلكاته. ومع كل هذه التضحيات التي قدمها أفراد الحشد الشعبي، إلا أنه يواجه انتقادات من أطراف متعددة بأنه «قوة طائفية» غير محايدة، وقد أُطلقت تحذيرات من السماح له بالانتشار في المحافظات ذات الغالبية السنية خشية حدوث أعمال انتقامية بسبب الحساسيات المذهبية. وفي مقابل هذه التحذيرات هناك مطالبات من قوى سنية رسمية وشعبية باضطلاع «الحشد الشعبي» بدور في تحرير الأنبار والموصل من سيطرة «تنظيم الدولة».
والمتابع للأحداث في العراق يجد بسهولة أن المبالغة هي سيدة الموقف، فإن حصلت جريمة عادية في منطقة ما فإنها لابد وأن تُضخم وتُفسر تفسيرات طائفية وسياسية، بل هناك من يختلق القصص ويبثها حول أعمال قتل طائفية هنا أو هناك متوهماً أن الاتهامات تضعف الطرف الآخر بينما هي تضعف الطرفين خصوصاً مع ضياع الحقيقة بينهما.
وبسبب الاستعداد النفسي عند كثيرين لتصديق الشائعات من دون تمحيص، اختلط الحابل بالنابل وضاعت الحقائق على كثيرين. هناك أيضاً من يزوق أي قصة ويضيف إليها «أدلة» كي تصبح قابلة للتصديق عند البسطاء من غير القادرين على التمييز بين الحقيقي والملفق، وطالما تجدهم يصدقون القصص التي تؤيد موقف جماعاتهم أو تبرئ ساحتها أو تجرم الآخر وتدينه.
وفي ضوء هذه الأجواء غير السليمة، وبوجود حساسية عند البعض من تدخل قوات لا تحظى بثقة الجميع، فإن الأسلم ألا تدخل قوات الحشد الشعبي أي منطقة سنية كي تتجنب الاتهامات لها بالطائفية وتبقى متماسكة وقادرة على أداء المهام الضرورية التي تناط بها مستقبلاً. لكن هذا لا يمنع أن تضطلع الوحدات السنية من «الحشد»، مدعومة بالوحدات الشيعية، بدور ريادي في تخليص المناطق السنية من الجماعات الإرهابية.
يجب أن يبقى الاعتماد على «الحشد» محدداً ومؤقتاً ولا يستخدم إلا في الضرورات القصوى لأسباب كثيرة أولها أن المهام القتالية والأمنية يجب أن توكل إلى قوات الجيش والشرطة التي تمثل البلد ككل وليس طائفة أو قومية أو منطقة معينة. وثانياً لأن الاعتماد على غير القوات الرسمية سيشكل إهمالاً للجيش وإلغاءً لدوره وهذا لن يحل المشكلة بل يزيدها تعقيداً.
الجيش العراقي بحاجة إلى إصلاح جذري وإعادة هيكلة كي يكون قادراً على الاضطلاع بالمهام الجسام التي تنتظره وأهمها القضاء على الجماعات الإرهابية الذي يتطلب مهارات قتالية فائقة غير متوافرة حالياً. وأخطر مشكلة يواجهها الجيش حالياً، وتحتاج إلى معالجة عاجلة، هي انحسار الانضباط العسكري بين منتسبيه، ولا يمكن الجيش أن يؤدي دوره في مواجهة التحديات التي تواجهه إن لم تُعالَج هذه المسألة.
إن نقص الثقة بين المكونات المجتمعية العراقية يحتاج إلى إجراءات عملية سريعة لتعزيز الثقة ومنها بناء جيش وطني كفؤ على أسس مهنية عالية كي يكون قادراً على كسب ثقة العراقيين جميعاً بأدائه القتالي المتميز من جهة، وعدم انحيازه لأي جماعة عرقية أو سياسية أو دينية، من جهة أخرى. الثقة التي يتمتع بها رئيس الوزراء حيدر العبادي، عراقياً ودولياً، تمكنه من بناء جيش قوي بالمواصفات السالفة الذكر، لكنه بحاجة إلى الإسراع في إنجاز هذه المهمة الصعبة قبل فوات الأوان.
ويواجه العبادي معضلات كثيرة، ربما لم يواجهها زعيم عراقي قبله، من الإمساك بالتوازن السياسي والطائفي والقومي والمناطقي، إلى التعامل مع الأزمة الاقتصادية الخانقة التي أحدثها تزامن انخفاض أسعار النفط مع زيادة الإنفاق على العمليات العسكرية، إلى غياب التماسك السياسي في الكتلة البرلمانية التي يمثلها، ما يجعله معتمداً على دعم كتل سياسية أخرى ربما لا تمنح دعمها له من دون مقابل.
أما التناحر الإيراني- الأميركي بخصوص العراق فيشكل قلقاً آخر لرئيس الوزراء يجعله دائم الخشية من أن يتضرر العراق من هذا التناحر في وقت لا يستطيع فيه أن يستغني عن دعم أي منهما. لقد برهن العبادي حتى الآن أنه الشخص المناسب في الوقت والمكان المناسبين، لكن الإمساك بزمام المبادرة دائماً في ظل ظروف سياسية وعسكرية واقتصادية قلقة، ومن دون دعم دولي ووطني متماسك، قد يكون أمراً يتجاوز قدرات أي زعيم سياسي، مهما كانت مهاراته فائقة.
حميد الكفائي
http://alhayat.com/Opinion/Writers/9435997/المتطوعون-لن-يكونوا-بديلاً-للجيش-العراقي