الفارس يترجل بعد حياة امتلأت نشاطا
مجلة الهدى-حزيران-٢٠١٥
المرة الأولى التي التقيت بها بالراحل الشيخ محمد مهدي الآصفي، الناطق الرسمي السابق باسم حزب الدعوة الإسلامية، كانت عام ١٩٨٦ في ندوة سياسية عقدها في كلية ريجنتس بارك في لندن أثناء زيارته لبريطانيا وحضرها عشرات المعارضين العراقيين من كل التوجهات السياسية العراقية. وقد أدار تلك الندوة الدكتور موفق الربيعي، الناطق باسم حزب الدعوة الإسلامية في بريطانيا حينها.
قدم الشيخ الآصفي للحاضرين شرحا مفصلا عن أفكار المعارضة الإسلامية في تلك الفترة وعن برامجها المستقبلية في مقارعة النظام، وقد بدا لي واثقا في كلامه ورصينا في تحليلاته وطروحاته السياسية إذ قدم صورة جيدة عن المعارضة الإسلامية ونشاطاتها الرامية للإطاحة بالدكتاتورية في العراق.
وقد استنتج أكثر الحاضرين في تلك الندوة أن هناك تصميما لدى المعارضة الإسلامية ولدى حزب الدعوة الإسلامية تحديدا على مواصلة النضال بالطرق المشروعة للإطاحة بنظام صدام وتلمسنا في الشيخ الآصفي إرادة لا تلين لمقارعة النظام الدكتاتوري وعزما على عدم مهادنة نظام مجرم لم يتردد في ارتكاب أبشع الجرائم بحق العراقيين بينما كان العالم يتفرج بصمت أو تواطؤ أو عدم اكتراث لمأساتهم.
كما استنتجنا أيضا أن المعارضة الإسلامية العراقية التي كانت تشكل العمود الفقري للمعارضة العراقية آنذاك كانت منفتحة على باقي قوى المعارضة العراقية وإلا لما سعى الشيخ الآصفي إلى الالتقاء بالمعارضين العراقيين من التوجهات السياسية الأخرى والتحدث إليهم والإستئناس بآرائهم.
وبعد ندوة كلية ريجنتس بارك، وفي تلك الزيارة نفسها، القى الشيخ الآصفي محاضرة أخرى في مركز أهل البيت الإسلامي جنوبي لندن، الذي كان يديره الشهيد مهدي الحكيم والسيد محمد بحر العلوم. وقد حضرت تلك المحاضرة إلى جانب العشرات من العراقيين الناشطين ضد النظام السابق. الانطباع الذي خرجنا به من الاستماع للشيخ الآصفي في ندوته الأولى في كلية ريجنتس ومحاضرته في مركز أهل البيت هو أن النصر على نظام صدام حتمي وما علينا نحن العراقيين إلا أن نواصل الطريق وألا نيأس من تحقيق ما نصبو إليه في عراق مستقر ومتصالح مع نفسه ومحيطه الإقليمي والدولي وحر من سلطة صدام حسين وحزب البعث.
المرة الثالثة التي التقيته بها كانت في مطلع كانون الثاني من عام ١٩٩٢في مؤتمر رابطة الشباب المسلم الذي عقد في مبنى “بادن باول” في حي كنزينغتون في لندن. وقد استمعت إلى كلمته حول العراق وانتفاضة الشعب العراقي التي كانت قد أخفقت في الإطاحة بنظام صدام في آذار من عام ١٩٩١ بسبب التخاذل والنكوص الدولي عن دعمها بعد وعود علنية للرئيس الأمريكي جورج بوش بأنه سيدعم انتفاضة الشعب العراقي ضد صدام.
كنت حينها اتابع شؤون جرحى الانتفاضة الذين جاءوا للعلاج في المستشفيات البريطانية. وبعد انتهاء جلسات المؤتمر في اليوم الأول تحدثت مع الشيخ الآصفي عن أولئك الجرحى فأبدى رغبته في زيارتهم، فاصطحبته مع الأستاذ علي الأديب بسيارتي وذهبنا لزيارة جرحى الانتفاضة في مستشفيات لندن. التقيته مرات عدة لاحقا أثناء زياراته المتكررة للعاصمة البريطانية واستمعت إلى كلماته وآرائه السياسية والدينية والفكرية.
الصفات البارزة في شخصية الشيخ الآصفي التي علقت في ذهني هي الشجاعة والوضوح والانسجام بين المبادئ التي يؤمن بها والأفعال التي يقوم بها. كان واضحا وواقعيا ومبدئيا وعالميا في تفكيره رغم اهتمامه الأول بالعراق والقضية العراقية التي الهمته ودفعته إلى العمل السياسي في المقام الأول. كما كان متواضعا في سلوكه ومظهره وملبسه وفي الوقت نفسه كان عميقا في تفكيره ولا يبتغي من نشاطاته غير إرضاء ضميره وتأدية ما كان يراه واجبا أخلاقيا ودينيا عليه.
في مطلع التسعينيات كنت ادير برنامجا ثقافيا في اللغة الإنجليزية لرابطة الشباب المسلم في أماسي أيام الأحد وكنت استضيف فيه شخصيات من مختلف التوجهات والتخصصات وكنت في أكثر الأحيان ابتدئ النشاط بمحاضرة اتحدث بها عن موضوع ذي علاقة بالمحاضرة الرئيسية التي ستلقى ذلك اليوم، أو القي المحاضرة الرئيسية أحيانا، وقد كنت استمع إلى محاضرات الشيخ الآصفي المسجلة في أشرطة الكاسيت كي أستمد منها أفكارا اتحدث بها. كان الراحل معجبا ومتأثرا بأفكار الشيخ ناصر مكارم وطالما استشهد بأفكاره في محاضراته التي اطلعت عليها.
رحم الله الشيخ الآصفي فقد عمل بجد ومثابرة وإيثار من أجل الآخرين فترك أثرا طيبا سيبقى طويلا بعد رحيله.