هناء الجنابي تغادر مبتسمة!
غادرتنا إلى العالم الآخر الناشطة الاجتماعية العراقية المعروفة هناء الجنابي بعد صراع مع المرض دام عقدا ونصف. وطوال تلك الفترة، كانت أم مصطفى تعاني بصمت لم يشعر به إلا هي وأفراد عائلتها المباشرة وبعض الأصدقاء المقربين، أما الآخرون فلم يروا أو يسمعوا سوى عطائها المستمر وخدماتها الجليلة وجهودها القيمة المقدمة مجانا للعراقيين في بريطانيا والبلدان الاخرى.
لا احتاج لأن أطنب في مدحها فهذه المرأة العملاقة حملت كل خير على وجه الأرض يمكن المرءَ أن يتخيله. كانت كلها عطاء وأخلاقا وسموا وكرما وبشاشة ودعابة وشجاعة وإقداما ونبلا.
لم تستسلم للأعراف البالية التي تطالب المرأة بالاختباء في المنزل لتحضير الطعام. بل كانت تعمل في كل ميدان متاح لها، مع الرجال والنساء والأطفال والمسنين، عراقيين وأجانب، وفي الوقت نفسه لم تلِن في التزامها الديني، ففهمها للإسلام يختلف عن فهم كثيرات وكثيرين. الإسلام بالنسبة لها يعني العمل المتواصل والدؤوب من أجل خير الناس في أي ميدان متاح، والصبر عند الفشل وتكرار المحاولة إن لم يتحقق المنشود، فعلّه يتحقق في المرة المقبلة.
شكلت مع زوجها الاقتصادي والأكاديمي المعروف الدكتور كمال البصري ثنائيا فريدا من نوعه. هذا الثنائي لا يمل أو يكل من العمل من أجل الآخرين. في بيتهما هناك مهرجان متواصل من الأحداث. كنت أتساءل أحيانا: ألا يترك هذان الزوجان وقتا لنفسيهما؟ لكن حياتهما على ما يبدو لم تكن تحلو إلا مع الآخرين. هذه حقيقة رأيتها طوال معرفتي بهما التي امتدت ثلاثة عقود.
وطوال معرفتي بهذه العائلة الكريمة، لم تتردد أم مصطفى يوما في تأدية عمل يمكن أن ينفع الآخرين، ولم تتبرم من نقد أو لوم يوجه لها بل اعتبرته أمرا طبيعيا في العمل الاجتماعي والمهني. الصبر والبشاشة والثقة بالنفس والإيمان بفاعلية عمل الخير وإيجابيته كانت هي الصفات السائدة التي اصطبغت بها حياتُها. كان بيت كمال وهناء، أينما حلا، وقد تنقلا من غلاسغو إلى مانجستر إلى غيلفورد إلى لندن، دارا لكل العراقيين والأصدقاء من البلدان الأخرى، ولا أتذكر أنني زرته يوما ووجدته خاليا من الضيوف. لقد عمل الاثنان على تأسيس العديد من الجمعيات الخيرية الناجحة التي استفاد منها الناس ومنها مثلا جمعية رعاية العراقيين التي مازالت قائمة، وبرلمان الجالية العراقية في بريطانيا الذي كان ينتخب أعضاءه سنويا ويناقش شوؤن العراقيين في العراق أو المهجر.
واقتفى أبناؤهما الثلاثة أثر الوالدين في العمل من أجل الآخرين وقد حصل نجلهما الأكبر، مصطفى، على وسام من ملكة بريطانيا تقديرا لخدماته المتميزة للمواطنين.
وبعد إصابتها بمرض عضال، لم تتوقف أم مصطفى عن العمل مطلقا، وأحسب أنها واصلته حتى الرمق الأخير، فالهدوء لا يروق لها. قبل عشر سنوات بلغ المرض بأم مصطفى مبلغا وقد أُدخلت المستشفى لعدة أسابيع وأتذكر أنني زرتها مع أم علا حاملا معي باقة ورد تليق بها. في تلك الفترة اصابنا القلق على صحتها واعتقدنا أنها ضعُفت كثيرا وربما لن تواصل العمل إن بقيت على قيد الحياة. لكنها صمدت وتجازوت الأزمة وعادت إلى نشاطها المعهود.
قبل عامين بُترت ساقُها وظن كثيرون أنها ستتوقف عن العمل لكنها فاجأت الجميع وبقيت تعمل بنفس الوتيرة. بقيت صامدة، بشوشة، سخية، حكيمة، ومتفائلة. لم يتأثر نشاطها كثيرا. زرتها قبل ثلاثة أشهر في منزلها في لندن وكنت أظن أنها ربما تغيرت بعد بتر ساقها والقيود المفروضة على حركتها. لكنني فوجئت أن ام مصطفى هي هي … رحبت بي ببشاشة وسمو أخلاق معهود وجلست معنا في صالة بيتها المطلة على الحديقة تتحدث عن كل شيء إلا نفسها. أصرت أن نبقى لتناول العشاء وكانت كريمة كعادتها توزع الطعام على الحاضرين وتراقب إن كانوا قد أخذوا كفايتهم منه أم لا. سألتها إن كان بتر ساقها قد آلمها كثيرا وأثر على حياتها فأجابت وهي تبتسم: أكثر ما يزعجني هو الألم المتخيل (phantom pain) وهو عادة يحصل لمن بُترت أطرافُهم فيشعرون بألم غير حقيقي في العضو المبتور وكأنه موجود.
تذكّرني أم مصطفى بعطائها المتواصل وحماسها لعمل الخير بأم كمال (زوجها) التي كانت هي الأخرى عاملة للخير حتى وفاتها قبل عشرين عاما تقريبا. أتذكر أن الصديق كمال البصري طلب مني أن ألقي كلمة في حفل تأبين والدته في لندن لأنني كنت منتبها لصفاتها وما تقوم به من أعمال الخير، ففعلت وارسلت تلك الكلمة للنشر في صحيفة محلية كنت أكتب فيها أحيانا، لكن صاحبها رفض نشرها لأسباب خاصة به فأرسل لي بيتين من الشعر مازلت أتذكرهما:
نهدي السلام الأكملا لخلنا أبي علا
وإذ نزف عذرنــــــــا حاشاه ألا يقبلا
فأرسلت له (قصيدة) جوابية من سبعة أبيات تجاري قافيته وتبين خصال أم كمال الطيبة التي تستحق رثائي لها، ولا أتذكر منها سوى بيت واحد يعاتبه على رفضه نشر الرثاء:
كيف ترد أسطرا يرثين من كان خلا؟
لحقت أم مصطفى بأم كمال لكن عمل الخير الذي ابدعتا فيه سوف يتواصل بعدهما لأنهما بذَرَتا بذرة ولودا لابد وأن تتواصل في غيابهما. أبو مصطفى هو الآخر مجبول على عمل الخير وأكاد أجزم أنه مضطر، وليس مخيرا، لأن يعمل من أجل الآخرين بسبب دوافع الخير الطاغية في نفسه. وهكذا كانت أم مصطفى طيلة حياتها القصيرة. وفي هذه المناسبة الحزينة لابد لي من أن أذكر أن وفاء كمال لهناء كان أسطوريا او قريبا منه. فقد تخلى عن عمله كمستشار لرئيس الوزراء للشؤون الاقتصادية والتزم المنزل طيلة عشر سنين عانت فيها زوجته من المرض. كان بإمكانه أن يبقى في عمله ويواصل نشاطاته التي احبها خصوصا متابعة الاقتصاد العراقي، ويترك رعاية زوجته للآخرين، وهو القادر على دفع تكاليف الرعاية مهما بلغت. وكان بإمكانه أن يتزوج بأخرى بعد أن مرضت زوجته وعجزت عن رعايته، كما فعل كثيرون بطرا ودونما سبب. لكن كمال، مثل هناء، هو من صنف الأوفياء المؤثرين الآخرين على أنفسهم، فرعاها بنفسه حتى آخر لحظة.
تحية لروح هناء الجنابي السامية، المرأة المعطاء التي أمضت كل لحظة من حياتها عاملة من أجل الآخرين، مبتسمة متفائلة بشوشة، أدخلت السعادة في قلب كل من عرفها. وتحية لرفيقها كمال البصري الذي واكبها في كل شيء ومكنته الظروف أن يفيَها حقها ويرعاها حتى النهاية. وكل العزاء لنجليها مصطفى ومروان وابنتها زينب وأعضاء الجالية العراقية في بريطانيا جميعا الذين سيتذكرون مساهمات هناء الجنابي القيمة لسنين طويلة.
حميد الكفائي