على رغم كثرة القرارات الإصلاحية التي اتخذها رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي، أخيراً، من أجل إنقاذ الأوضاع الاقتصادية والأمنية المتأزمة في العراق، إلا أنها في ما يبدو لم تترك الأثر الإيجابي المتوخى منها بين المواطنين، بل على العكس خلقت له أعداءً بين حلفائه السابقين في الكتل السياسية التي ساندت تشكيل حكومته، ولم ترضِ المحتجين الذين يواصلون تظاهرهم في بغداد والمحافظات الأخرى.
العبادي الآن في وضع لا يُغبط عليه، فالأزمة الاقتصادية الحادة بلغت أقصى مداها، وهناك من يتحدث عن عجز الدولة عن دفع رواتب موظفيها في المستقبل القريب. إيرادات العراق، الذي يعتمد اعتماداً أساسياً على تصدير النفط، تدنت إلى الثلث، بينما تضاعف إنفاقه على الدفاع والأمن بسبب ازدياد الأخطار الأمنية وسقوط محافظتين بأيدي الجماعات الإرهابية. أما الفساد في أجهزة الدولة فما زال مستشرياً ولم تحقق جهود القضاء عليه تقدماً يُذكر بسبب ضعف إجراءات تطبيق القانون وتمتّع الفاسدين بحماية سياسية وأمنية.
لقد اختار العبادي أن يبدأ بالإصلاحات الإدارية، وأولها إلغاء المناصب العليا الفائضة عن الحاجة، وهناك بالتأكيد مئات المناصب وآلاف الوظائف التي يمكن الاستغناء عنها إدارياً واقتصادياً، لكن هل يمكن فعلاً الاستغناء عنها سياسياً واجتماعياً؟ الإصلاحات التي اعتقد العبادي أنها ستعزز سلطته وترضي المواطنين المحتجين وتدعم الاقتصاد المنهار، لم تنجز الأهداف المتوخاة إلا قليلاً، من حيث أن الناس يرون أنه يعمل للإصلاح لكنهم لم يلحظوا أي تغيير على الأرض. وفي الوقت نفسه، فإنها أثارت غضب شركائه السياسيين الذين شعروا بأنه بدأ يتفرد بالسلطة، فهو لم يستشرهم في إصلاحاته بل اتخذ قراراته بالاستعانة بمجموعة قليلة من مستشاريه الذين ينتمون إلى حزبه.
قد تكون توقعات الجماهير كبيرة، وهي كذلك بسبب عِظَم المشكلات وتفاقمها، لكنّ هناك من دون شك فشلاً حكومياً في التواصل مع المحتجين وشرح أبعاد الإصلاحات واحتمالاتها. ثمة إخفاق وعجز واضحان في طاقم رئيس الوزراء الإداري والإعلامي في التواصل مع الناس وشرح الأسباب التي دعته الى اتباع الإجراءات المتّخذة والنتائج المتوخاة ومتى يمكن رؤية هذه النتائج وفوائدها، وهذا بينما لم يتردد خصومه، خصوصاً المتضررين من الإصلاحات، في مهاجمته وتأليب الناس عليه والانتقاص من إجراءاته التي لم تتحوّل إلى سياسات فاعلة.
وعلى رغم أن إلغاء المناصب العليا الستة (الفائضة عن الحاجة)، كان مهماً عند بداية الاحتجاجات من أجل الظهور أمام الناس بأنه جاد في الإصلاحات وأنها يجب أن تبدأ في المستويات العليا ثم تتدرج إلى الوظائف الدنيا، فإن اتخاذ العبادي تلك القرارات حصل من دون أدنى تشاور مع القوى السياسية الممثلة في تلك المناصب، والتي جاءت نتيجة للتوافق السياسي الذي تشكّلت حكومته بموجبه، ما جعل أولئك الشركاء السياسيين يشعرون بأن العبادي قد نقض الاتفاق السياسي من جانب واحد.
صحيح أن بعضهم صمت أو رحّب على استحياء بإلغاء المناصب، لكنه بالتأكيد شعر بالإهانة نتيجة الطريقة التي حصلت بها. الدكتور إياد علاوي انتقدها بقوة منذ البداية، وبدأ يعلن عن معارضته استمرار العبادي في رئاسة الوزراء، والأغرب ما تناقلته الأخبار من أنه مستعد للتحالف مع خصمه السابق نوري المالكي، ضد الحكومة الحالية.
بعض الإجراءات كانت متسرّعة ومصمّمة لإرضاء الاحتجاجات، لكنها كانت ضارة على الأمد البعيد. كيف يمكن تبرير إلغاء وزارة السياحة والآثار في وقت تتدنى إيرادات البلد من صادرات النفط؟ أليس حرياً بالحكومة أن ترفع اهتمامها بالسياحة والآثار كي تستقطب المزيد من الاستثمارات في هذا المجال الحيوي، الذي كان سيعوّض بعض النقص الحاد في إيرادات العراق النفطية؟ هل يجوز أن تلغى وزارة البيئة في وقت تتدهور البيئة لتشكل خطراً ليس على الصحة العامة فحسب، بل على الأجيال المقبلة؟ وأين الحكمة في إلغاء وزارة العلوم والتكنولوجيا بينما يعاني العراق من تخلّف علمي وتكنولوجي منذ عقود بسبب العقوبات الدولية والقيود التي فرضتها الديكتاتورية؟ ثم ما هو التوفير الذي حققته الإصلاحات من دمج الوزارات أو إلغائها؟
الموظفون في الوزارات المدمجة أو الملغاة بقوا في وظائفهم، إذ لا يمكن تسريحهم قانوناً، إضافة إلى أن الأضرار السياسية والاجتماعية، بل الاقتصادية، المترتبة على ذلك ستكون كبيرة جداً. أما الوزراء الذين أقيلوا من مناصبهم فسيواصلون تقاضيهم رواتب وامتيازات مقارِبة لما كانوا يحصلون عليه كوزراء، بينما أُبعدوا من مواقعهم التي كانوا يقدّمون عبرها خدمة للبلد.
إعلان الحكومة أنها ستلغي 123 منصباً إضافياً من مختلف الوزارات والهيئات، هو الآخر يفتقر إلى الموضوعية والشفافية. فلا أحد يعلم من هم هؤلاء أو أسباب إلغاء مناصبهم وماذا سيكون مصيرهم؟ تقليص عناصر حماية المسؤولين هو الآخر جوبه برفض من معظمهم بسبب الأخطار الأمنية المحدقة بهم. الكثير من الإعلانات الإصلاحية لم تتابع ولم يعرف الناس نتائجها، فليس هناك من يشرح لهم فوائدها أو خطوات تفعيلها، بينما ينشط خصوم العبادي في كل اتجاه. هناك نقص واضح في المعلومات التي تقدّمها الحكومة حول الإصلاحات الاقتصادية والإدارية الرامية إلى تهدئة الاحتجاجات. لكن المستغرب أن الخطاب الحكومي يقوم على المطالبة بـ «استمرار الاحتجاجات وإدامتها» كما طالب رئيس الجمهورية في إحدى خطبه، وهنا يكمن التخبط والتناقض في السياسة الحكومية.
«إدامة الاحتجاجات واستمرارها» يعنيان في ما يعنيان فشل الحكومة في تلبية مطالب الشعب، لذلك يجب أن يكون أهم هدف للحكومة إنهاء الاحتجاجات عبر تلبية مطالب المحتجين أو على الأقل توضيح الخطوات التي تقود إلى إصلاحات تأتي بنتائج مثمرة تنعكس على حياة الناس. الاحتجاجات ليست نزهة، والمحتجون لن يواصلوا احتجاجاتهم إن شعروا بأن العمل على تلبيتها جاد ومتواصل. العبادي في حاجة الى أن ينجز شيئاً يشعُر به الناس كي يصدقوا أن احتجاجاتِهم أثمرت فعلاً. أزمة الكهرباء كانت الشرارة التي أشعلت الاحتجاجات، وإصلاح هذا القطاع يجب أن يحظى بأولوية قصوى، وكذلك تحقيق العدالة وإصلاح القضاء وتحرير الاقتصاد وإقرار الأمن والقضاء على الفساد. إنها تحديات ليست سهلة لكنها غير قابلة للتأجيل.
حميد الكفائي
http://www.alhayat.com/Opinion/Writers/11363100/إصلاحات-العبادي-أجّجت-المعارضة-ولم-ترضِ-المحتجّين