تعرفت الى أحمد الجلبي مطلع ١٩٩١، أثناء اجتماعات المعارضة العراقية إثر اندلاع انتفاضة الشعب العراقي ضد صدام حسين، وكان باهراً حقاً بشخصيته المحبّبة ومعلوماته الاقتصادية المفصّلة. كنت حينها قد أنهيت للتو دراستي الاقتصاد في جامعة «لندن – مت»، وتصوّرت أنني أفهم في الاقتصاد، لكنني بعد لقائه اضطررت لأن أعود إلى كتبي الدراسية للتأكد من دقة معلوماتي.
ومهما اختلف الناس حوله، يبقى الجلبي متميزاً في مجالات وخصال عدة، ولا يمتلك المرء المنصف إلا أن يحترمه لذكائه وقوة شخصيته وموضوعيته وتسامحه الأسطوري مع خصومه. لم يبقَ اتهام أو مثلبة لم ترمَ على أبوابه خلال ربع القرن الأخير. اتهمه خصومه بالسرقة والعمالة والخيانة والتآمر والقتل وغيرها من تهم هي في أكثر الأحيان جاهزة، إذ لا يحتاج كثر في مجتمعاتنا إلى الدليل لتصديقها. فالإشاعة عندنا تسري كالنار في الهشيم، على رغم أنه أمر يتنافى مع أساسيات الدين والأخلاق والعدالة.
وعلى رغم أن العمل السياسي يحتاج إلى التنسيق والعمل الجماعي والاحتكاك بالناس وإقناعهم، فإن الجلبي ظلّ يعمل منفرداً، معتمداً على طاقته الذاتية ومهاراته الشخصية الخلاقة، فلم يطلِع من عمِل معه على خططه السياسية أو أفكاره أو حتى بعض آرائه. والغريب أنه لم يسعَ مطلقاً الى أن يشكل حزباً جماهيرياً يساعده على تحقيق طموحاته السياسية العريضة على رغم قدرته المالية والسياسية.
لم أعمل مع الجلبي أيام المعارضة، لكنني تعاملت معه وكان دائماً كيّساً، لكن أغلب ما أثار استغرابي، انعدام كفاءة المحيطين به وكان معظمهم من الشبان وقليلي الخبرة السياسية. في مطلع ٢٠٠٣، وقبل انطلاق الحملة الأميركية لتغيير النظام، اتصل بي سكرتيره الشخصي قائلاً أن الدكتور (هكذا كان يعرفه أتباعه) يريد أن يراك. فرحت كثيراً لأن الجلبي كان حينها يمثل أملاً للخلاص من الديكتاتورية لكثر من العراقيين، بل ربما كان الأمل الوحيد.
ذهبت لمقابلة «الدكتور» في مقره في حي نايتسبريج الراقي غرب لندن. أدخلوني عليه فوجدته واقفاً وسط مكتبه. مددت يدي لمصافحته، لكنه اعتذر (لابتلال يده)! لم أشعر بالإهانة لأنني كنت أعرف أخلاق الجلبي الرفيعة، لكن ساورني شك في أن «الدكتور» لن ينجح في عمله السياسي لأنه لم يتعرف بعد الى ثقافة بلده، فالرجل أمضى ٤٥ عاماً في الخارج. جلسنا لمدة ساعة تقريباً، وطرحت عليه أفكاراً بينها ضرورة العمل الجماعي، إذ لا يمكنه الاستمرار في العمل منفرداً، فالسياسة تتطلب أن يكون له تنظيم سياسي يساعده على بلورة الأفكار وتنفيذها. لم يرحب بالفكرة، بل أبدى قلقه منها لافتاً الى أنه حاول العمل مع آخرين لكنهم عملوا ضده، وذكر لي اسمين بارزين ممن وثق بهم وغدروا به، وقال أنه سيؤسس تنظيماً سياسياً بعد العودة إلى العراق. انتهى لقائي بالجلبي وهممت بالمغادرة، وسألته مازحاً إن كانت يده قد «جفت» كي أصافحه فضحك وصافحني وودّعني حتى الباب الرئيسي، معوضاً عما حصل سابقاً.
كان الجلبي أول العائدين إلى العراق عام ٢٠٠٣، مع بضع مئات من الشباب العراقيين المدربين على السلاح الذين دخلوا عبر كردستان حتى قبل دخول القوات الأميركية، واتخذ من بغداد مركزاً له، وكانت تلك خطوة جريئة لا يقدم عليها إلا مغامر شجاع مستعد للتضحية، وقد كان الجلبي قائداً هماماً ومستعداً للتضحية، حتى أن أحد حراسه أخبرني بأنه استقال من عمله لأنه فشل في جعله يلتزم التوجيهات المتعلّقة بسلامته.
في بغداد، بدأ الجلبي يعمل ضد الوجود الأميركي في العراق، وقد أسرني أحد المقربين منه بقوله أنه أخبره قبل سقوط النظام، وعندما كانا في كردستان، بأن الخطة المقبلة بعد سقوط النظام ستتضمن إخراج الأميركيين!
عارض الجلبي قرار الأمم المتحدة الرقم ١٥٨٣ الصادر في ٢٢-٥-٢٠٠٣، باعتبار العراق دولة محتلة، وطالب بتسليم السلطة إلى العراقيين فوراً كي يقيموا نظامهم الديموقراطي. وفي مجلس الحكم الذي تشكل بعد ثلاثة أشهر من سقوط النظام، كان الجلبي معارضاً للسياسات الأميركية حتى أنني ذُهلت لمواقفه، وتساءلت كيف يقف «رجل أميركا الأول» ضدها! لكنه ربما كان يستشعر بأن الأميركيين لن يسلموه السلطة لأنهم أدركوا لاحقاً أن المعلومات التي قدّمها لهم عبر مشروعهم المشترك معه لم تكن دقيقة، وقد اتهموه لاحقاً بالتعاون مع إيران وأصدروا أمراً بإلقاء القبض عليه، لكنهم تراجعوا بعد أن اتضح لهم أنه قادر على إرباك ترتيباتهم في العراق.
لم يتمكن ولم يحاول الجلبي أن يبني قاعدة سياسية في العراق، لأنه أدرك عبثية هذا المسعى. ولأن الساحة السياسية يسيطر عليها الإسلاميون، عمل جاهداً على توحيد صفوفهم في كيان سياسي واحد هو الائتلاف العراقي الموحد، آملا بأن يعطوه الفرصة لقيادة العراق بحكم قدراته الإدارية وعلاقاته الدولية ومعرفته التفصيلية بشؤون الاقتصاد العالمي، لكن أعلى منصب تولاه كان أحد نواب ثلاثة لرئيس الوزراء المنتخب إبراهيم الجعفري. لقد كان التنافس السياسي على أشده، ولم يكن هناك مجال لـ «إنصاف» الجلبي بالموقع الأول الذي كان يشعر بأنه يستحقه لدوره المحوري في إسقاط النظام. فقد أبعدته الكتلة التي ساعد على تشكيلها، ولم يتمكن منفرداً من الحصول حتى على مقعد واحد في البرلمان في الانتخابات الثانية.
لكن الجلبي لم يعرف اليأس، فبقي مصراً على مواصلة العمل وعاد إلى البرلمان في الانتخابات الثالثة والرابعة مترشحاً عن قائمة شيعية، لكنه، لم يتولَّ منصباً سوى رئاسة اللجنة المالية. برز الجلبي خلال الفترة الأخيرة عبر كشفه المشاريع التي تخللها فساد في العديد من القطاعات، وقد هدد بكشف الفاسدين في الوقت المناسب. وربما كانت حملته على الفساد محاولته الأخيرة لإنقاذ العراق، لكن الموت لم يمهله فتوفي نتيجة أزمة قلبية حادة من دون أن يحقق طموحه بقيادة دولة عصرية قوية.
صُدم العراقيون برحيل الجلبي المبكر، فلم تُعرف عنه معاناتُه من أي مرض. لقد غادر عالم الرياضيات والاقتصاد من دون تحقيق طموحه بقيادة العراق، لكنه حقق طموح أبناء بلده في الخلاص من نظام صدام حسين وإقامة نظام تعددي لا يسمح بعودة الديكتاتورية.
حميد الكفائي
http://www.alhayat.com/Opinion/Writers/12023726/مغامر-غادر-ولم-يتحقّق-طموحه-السياسي