منذ لحظة سقوط الصنم بدأت الاحلام تغازل مخيلة الناس بوطن آخر يضم الشعب الى حضنه، لكن هذه الأحلام اصطدمت اولا برؤية الاميركان وانتهاجهم سياسية لم يكن يتوقعها احد سواء الشعب او قادة المعارضة والاحزاب التي دخلت العملية السياسية الجديدة. اول الاشياء كان مجلس الحكم والحاكم المدني بريمر الذي اصدر قرارات مازال الكثير منها يعمل دون ان يجرؤ احد على تغييرها او تعديلها. عن تلك الفترة الصاخبة والضاجّة بالأحداث اجاب الكفائي عن اسئلتنا:
نتحدث في البداية عن التجربة الاولى مابعد تغيير 2003 والمتمثل بمجلس الحكم وتكليفك بمنصب الناطق الرسمي، كيف تقيّم هذه التجربة خاصة أنها الأولى من نوعها في الدولة العراقية.
-مجلس الحكم كان إطارا يجمع القوى السياسية العراقية الرئيسية في تلك الفترة والتي كان يُعوَّل عليها في تسلُّم الحكم كليا من الإدارة الأميركية وتأسيس نظام ديمقراطي عصري يكون منسجما مع طبيعة المجتمع العراقي التعددية وكذلك يكون مسالما ومتعاونا مع دول المنطقة والعالم. ولم تكن تلك مهمة سهلة خصوصا وأن القوى السياسية العراقية لم تكن لديها تجربة في التعاون الحقيقي فيما بينها بعد أن وجدت نفسها فجأة قريبة من السلطة لأول مرة في تأريخها. كانت لمجلس الحكم سلطات تشريعية وتنفيذية لكن القول الفصل في تنفيذ قرارات مجلس الحكم كان للحاكم المدني الأمريكي، بول بريمر، الذي عرقل تنفيذ عدد من القرارات بحجج مختلفة منها عدم توفر الأموال اللازمة لتنفيذها. اعتقد أن مهمة الناطق الرسمي كانت صعبة وقد ترددت في قبولها عندما عُرضت علي لكنني قبلت بها بعد مشاورات مع صديقي المخلص الدكتور علاء يحيى فائق الذي كان أول من رشحني لهذا الدور، ثم مع عضو مجلس الحكم ومسؤول الإعلام فيه الأستاذ سمير شاكر الصميدعي والأمين العام لمجلس الحكم الأستاذ محيي كاظم الخطيب. قبلت التكليف لأن هناك تحدياتٍ كبيرةً وخطيرة تواجه النظام الجديد في تلك الفترة ولابد من مواجهتها بقوة وصبر وشجاعة.عدم قبوله كان يعني هروبا من المسؤولية ونكوصا عن التحدي وعملا تنقصه الشجاعة والإيثار، ولم يكن من صفاتي الهروب أو النكوص أو الأنانية، فقبلت التحدي مرتاح الضمير وشاعرا بالسرور والفخر أنني سأؤدي دورا مهما في إرساء دعائم نظام عصري جديد ينقل العراق إلى وضع أفضل. لقد كان شرفا عظيما أن يُجمِع قادة العراق آنذاك على اختياري لأكون صوتَهم الوحيد وناقلَ آرائهم وأفكارهم إلى الشعب العراقي والعالم. نعم كانت التجربة الأولى من نوعها في العراق ولم يكن الكثيرون، بمن فيهم أعضاء مجلس الحكم ونوابهم وموظفو المجلس أو الوزراء، يعرفون بالتفصيل الدور الذي يضطلع به الناطق الرسمي مما اضطر رئاسة المجلس إلى توضيح ذلك لهم في بيانات أو توجيهات وهو باختصار أن رأي مجلس الحكم يمثله رئيس المجلس والناطق الرسمي فقط ولا يحق لأحد الأعضاء أو نوابهم أو أي من موظفي المجلس أن يلعب هذا الدور مطلقا. للأعضاء الحق في التعبير عن آرائهم الخاصة لكن رأي المجلس يعبر عنه الرئيس والناطق الرسمي.
تكوين مجلس الحكم الذي جاء وفق رؤية أميركية بتمثيل كل المكونات العراقية وبشكل دوري كيف تسنى لك التعامل والعمل مع الشخصيات الموجودة في مجلس الحكم المختلفة في الكثير من الاشياء؟
-مجلس الحكم لم يكن رؤية أميركية بل رؤية عراقية- أميركية مشتركة في ظل الظروف القائمة آنذاك من احتلال عسكري أميركي وتشتت عراقي وعربي وغياب القدرة على تشكيل حكومة قوية بسبب حل الجيش والشرطة وضعف مؤسسات الدولة. الأميركيون أرادوا في البداية مجلسا (استشاريا) لهم في العراق لكن القادة العراقين جميعا رفضوا هذه الفكرة، ولم يكن هناك من هو مستعد لتقديم المشورة لقوة محتلة بل هي التي سعت لأن تؤسس لنظام احتلال معترف به دوليا. تواصلت المفاوضات بين الأميركيين والعراقيين شهرين كاملين حتى توصل الطرفان إلى صيغة مجلس الحكم كصيغة انتقالية لنقل السلطة إلى العراقيين في أقرب فرصة. وبالنظر لتعدد الآراء والرؤى السياسية في مجلس الحكم، بسبب تنوع مكوناته واختلاف توجهاتها السياسية، فقد كانت هناك ضرورة لإبراز موقف عراقي موحد ومن هنا جاءت فكرة تعيين ناطق رسمي يعبر عن رأي المجلس الذي يتفق عليه غالبية الأعضاء أثناء مداولاتهم. عُيِّنت ناطقا بعد مرور شهرين تقريبا على إعلان المجلس وقد توليت المهمة أثناء رئاسة الدكتور إياد علاوي للمجلس في شهر تشرين الأول من عام ٢٠٠٣ وهي كانت الرئاسة الثالثة بعد الدكتور إبراهيم الجعفري والراحل الكبير الدكتور أحمد الجلبي. كان دوري محددا وهو إعلان قرارات مجلس الحكم وتبيان موقفه وموقف الحكومة للرأي العام وتقديم التوضيحات اللازمة. وبحكم خبرتي في العمل الإعلامي وعملي في مؤسسات دولية مهمة كالبي بي سي وكتابتي في صحف عالمية كالغارديان والإنديبندنت، وصحف عربية مهمة كالحياة، فلم تكن الَمهمة بالغة الصعوبة من الناحية المهنية بالنسبة لي. لم أتحدث باسم الأعضاء وإنما باسم المجلس، أما الأعضاء فقد كانوا أحرارا في ما يعبرون عنه من آراء، لكن بعضهم كان يستشيرني قبل التحدث إلى وسائل الإعلام كي أطلعهم على المستجدات وما يمكن أن يواجههم من أسئلة، أما البعض الآخر، وبسبب حداثة التجربة، فتوهم أنه سيصبح زعيما وطنيا عبر الظهور المتكرر في وسائل الإعلام لكن النتيجة كانت معاكسة تماما. الإعلام، كما يعرف المهنيون، يصنع أو يصدع، يجسر أو يكسر، يتمِّم أو يحطِّم، لذلك فإن هناك حاجة لأن يعرف المرء كيف يتعامل مع وسائل الإعلام ومتى يتكلم ومتى يصمت.
الحاكم المدني بريمر الذي كان مستحوذا على صناعة القرار، ما شكل علاقة العمل بينكم في تلك الفترة خاصة فيما يخص القرارات التي تهم الإعلام والإدارة؟
-الحاكم المدني الأميركي كان يمتلك القوة وإلى جانبها الشرعية الأممية بحكم قرار مجلس الأمن المرقم ١٤٨٣، لكن مجلس الحكم كان القوة العراقية المعترف بها أميركيا ودوليا والتي تمتلك قوة تمثيل الشعب العراقي. وقد شكل المجلس حكومة في أيلول من عام ٢٠٠٣ واعترف بها الحاكم المدني ودول العالم المختلفة وهي التي كانت تضطلع بإدارة الأوضاع في العراق، مع وجود مستشارين أميركيين متواصلين من الإدارة الأميركية في العراق، وكثيرون منهم كانوا عراقيين يحملون جنسيات أميركية أو أوروبية. الحاكم المدني كان مسؤولا أمام مجلس الحكم الذي يحاوره ويحاسبه كل أسبوع أيام الأربعاء في اجتماع يدوم عدة ساعات. لم تكن هناك ضوابط قانونية تحكم العلاقة بين المجلس والحاكم المدني، لذلك بقيت العلاقة قلقة ومتوترة طوال فترة المجلس التي استمرت عاما تقريبا. لكنه اضطر في بعض الأحيان للتراجع عن موقفه أمام إصرار ووحدة مجلس الحكم على رأي معين، وقد حصل ذلك أثناء ضرب مدينة الفلوجة عندما واجه موقفا موحدا من مجلس الحكم معارضا لضرب المدينة. لكنه كان في أحيان أخرى يتمسك بقراره ولم نستطع تغييره خصوصا عندما يتعلق بالإنفاق على المؤسسات والخدمات المقدمة للمواطنين إذ كان يتحجج بأنه لا يمتلك المال اللازم لتنفيذ القرار.
من ضمن القرارات التي صدرت عن سلطة الائتلاف قرار تأسيس شبكة الإعلام العراقي وبصفتك احد مؤسسي الشبكة، ما الغاية من تأسيسها في وقت لم يكن هناك شكل واضح للدولة؟
-شبكة الإعلام العراقي تأسست قبل مجيء سلطة الإئتلاف إلى الحكم بعدة أشهر وكانت بدايات التأسيس تعود إلى مطلع عام ٢٠٠٣ وقبل سقوط النظام، وكانت في الحقيقة تعمل منذ منتصف نيسان عام ٢٠٠٣، لكن الحاكم المدني أصدر القرارين٦٥ و ٦٦ الخاصين بهيئة الإتصالات والإعلام وشكبة البث والإرسال في أواخر عام ٢٠٠٤ من أجل تنظيم عمل المؤسستين. شبكة الإعلام العراقي تأسست من أجل تقديم خدمة إعلامية مهنية للعراقيين من كل المناطق والطوائف والطبقات ومستويات الدخل والتعليم وغير ذلك. كان يفترض بشبكة الإعلام أن تعمل على غرار هيئة الإذاعة والتلفزيون البريطانية (بي بي سي) وتقدم خدمة إعلامية مهنية مستقلة ومحايدة ودقيقة للشعب العراقي إلا أنها تعثرت في أداء هذه المهمة بسبب التدخلات السياسية وضعف الكادر الإداري مهنيا والاعتماد على تمويل الأميركيين أولا ومن ثم الحكومة العراقية لاحقا.
كيف ترى وتقيّم عمل شبكة الإعلام العراقي الآن بكل تفرعاتها ، وهل تحققت الجدوى والغاية من تأسيسها؟
-للأسف لم ترتق الشبكة حتى هذه اللحظة إلى الأهداف التي تأسست من أجلها والسبب هو كما أسلفت عدم وجود إدارة مهنية كفوءة قادرة على العمل باستقلالية عن الاختلافات السياسية. بعض الذين أداروا الشبكة لم يكونوا متمرسين في الإعلام أو الإدارة، فكيف يُتوقع منهم أن يصنعوا مؤسسة مهنية مستقلة؟ كان يفترض أن تكون الشبكة مستقلة كليا وقد وضعنا كل هذه التفاصيل في وثيقة أثينا للإعلام الحر التي كنت أحد مؤلفيها الثلاثة، (الإثنان الآخرن كانا مايكل فاولر، أستاذ القانون الدولي في الجامعة الأميركية في القاهرة، وجورج بابايانيس، المدير التنفيذي لوكالة إنترنيوز الدولية للتطوير الإعلامي). وقد شارك في المناقشات والمداولات في مؤتمر أثينا للإعلام الحر في العراق، الذي تشرفت بإدارته والإعداد له، ٧٥ صحفيا وخبيرا إعلاميا من مختلف أنحاء العالم، بما في ذلك العراق والدول العربية. اعتقد أن مشكلة شبكة الإعلام غير قابلة للحل في الظروف الحالية لأنها تفتقر إلى الاستقلالية المالية ومن ثم السياسية، أي أنها تابعة للحكومة بحكم التبعية المالية، وما لم تستقل ماليا فسوف تبقى غير مستقلة. الحل الأمثل لها هو أن تكون هيئة مستقلة ماليا وإداريا ومهنيا كما هو حال البي بي سي، وفي حال تعذر ذلك، وهذا هو المرجح، فإن الأفضل أن توكل إدارتها إلى القطاع الخاص وفق شروط محددة تضمن استمرارها كخدمة عامة تتوفر فيها الاستقلالية والحياد والمهنية العالية.
في الحكومة الاولى بعد تجربة مجلس الحكم لم تكن موجوداً ضمن الكابينة الوزارية او حتى ضمن عمل الكادر الإعلامي للحكومة، من الذي يقف وراء ذلك؟
-أنا شخصيا لم أسعَ إلى منصب في حياتي ولن أسعى، لأن المنصب هو خدمة عامة ويجب أن تكون هناك حاجة لشاغله مقرونة برغبة لدى المعنيين بالشأن العام، وهم ممثلو الشعب، لكنني بالتأكيد كنت وما أزال أود أن أساهم بما استطيع في بناء العراق الجديد. لماذا لم أكن في التشكيلة الحكومية الأولى؟ ربما لأنني لم أسعَ لأن أكون فيها للسبب الذي ذكرته، رغم أنني شاركت في التهيئة للمشاورات التي أجرتها الأمم المتحدة حول تشكيل الحكومة والتي سبقت تشكيلها ولكن لم أُدعَ للمشاركة ولم أسعَ لها بل هي لم تخطر ببالي مطلقا. لقد طُرح علي هذا السؤال كثيرا خصوصا وأن معظم المشاركين في مجلس الحكم قد شاركوا في تلك الحكومة أو أصبحوا أعضاء في المجلس الوطني الذي خلف مجلس الحكم أو اصبحوا مستشارين أو سفراء أو وكلاء وزارات. كان بإمكاني أن اصبح سفيرا أو وكيل وزارة لكنني رفضت الفكرة إذ كنت في تلك الفترة أسعى مع عدد من السياسيين والصحفيين إلى تأسيس تيار سياسي وطني يرتقي فوق المناصب والطموحات الشخصية ويرسي دعائم ديمقراطية حقيقية ترتقي بالعراق إلى الموقع الذي يليق به بين الدول الديمقراطية المتطورة في العالم وكنت أعتقد بأن أي منصب حكومي سيقيد حريتي في التعبير عن آرائي. لم أوفق في مسعاي ولم أتمكن أنا أو الحركة التي أسستها من الحصول على تمثيل في البرلمان بسبب ظروف يصعب شرحها الآن لكنها معروفة وأهمها الاستقطاب الطائفي ونقص التمويل وعدم الإنصاف الذي اتسمت به الحملات الانتخابية ومحاولة البعض القفز إلى السلطة بطرق غير ديمقراطية وهذا بالضبط ما حصل، فقد كان هناك من استغل الناس واستغفلهم في تلك الفترة وما يزال بعضهم موجودا حاليا.
ما هو سبب استثنائك من قرار منح أعضاء مجلس الحكم حق التقاعد بدرجة وزير؟
-يبدو أن نشاطي الإعلامي والسياسي آنذاك قد أزعج كثيرين خصوصا بين الإداريين في حكومة الدكتور علاوي فحذفوا منصبي من القرار رقم ٩، ولم ينتبه الدكتور علاوي إلى ذلك حينها وإلا لكان قد منعه. حاول السيد المالكي مشكورا إضافة منصبي إلى القرار رقم ٩ وكتب إلى الأمانة العامة لمجلس الوزراء لكنه لم يفلح لأن ذلك كان بحاجة إلى موافقة البرلمان. وعدني برلمانيون من كتل مختلفة (بينهم حيدر العبادي وميسون الدملوجي وشروان الوائلي وآخرون) بأنهم سيسعون لتعديل القرار وإدراج منصب الناطق فيه لكنهم لم يفعلوا أو ربما لم يتمكنوا من ذلك. وليت الظلم الذي وقع علي انتهى عند هذا الحد، فقد أخذت الأمانة العامة لمجلس الوزراء شقتي التي كنت أسكنها وأعطتها إلى احد أقارب أحد المسؤولين بينما شطب مسؤول آخر اسمي من قائمة المستفيدين من قطع الاراضي التي وزعت بقرار من الدكتور اياد علاوي عام ٢٠٠٤، إذ حصل جميع المستحقين على استحقاقاتهم إلا أنا. المهم أنا مرتاح الضمير فلم أقم بشيء يناقض ضميري ولم أحصل على مقابل مادي لما قمت به من جهود وخدمات سواء أكان في زمن المعارضة أو الحكومة.
على مدى دورتين انتخابيتين كانت هناك تجربة ما يعرف بـ الوزارة الناطقة باسم الدولة،كيف تقيّم هذه التجربة؟
-الناطق الرسمي موقع مهم في الحكومة وهو يجب أن يكون بدرجة وزير كي يحضر اجتماعات مجلس الوزراء ويطرح رأيه في المناقشات والمداولات التي تجري حول القضايا المختلفة ويبين تأثيراتها وتبعاتها الإعلامية وكيفية التعامل معها إعلاميا، ويجب أن يكون لديه طاقم صحفي وإداري قادر على الإضطلاع بالمهام المناطة به من متابعة وتحليل ورصد لوسائل الإعلام ومؤسسات الدولة. من الأفضل أن يكون الناطق الرسمي وزيرا أو مسؤولا كبيرا في الحكومة ومن المحبذ أن تكون لديه مهام أخرى إضافة إلى مهمة الناطق. بقاؤه ناطقا فقط يجعله ضعيفا لأنه حينئذ سوف يتكلم عن أفعال وأقوال الآخرين التي لا رأي أو دور له فيها وهذا يقلص من أهميته ومصداقيته. تجربة الناطق في حكومتي المالكي الأولى والثانية لم تكن ناجحة في رأيي لأن شاغل الموقع لم يكن مؤهلا للمنصب أصلا بل لا علاقة له بالإعلام وهوكان يبحث عن أي منصب في الحكومة بعد فشله في الانتخابات ولم يكن هناك موقع شاغر غير الناطق الرسمي فأسند إليه في اللحظة الأخيرة لسبب ما وبقي فيه سبع سنوات تقريبا!!! بينما من الضروري ألا يبقى الناطق في منصبه أكثر من عامين لأنه سيفقد القدرة على التجديد والإقناع إذ تتلاشى مصداقيته بمرور الزمن.
ماذا تقصد بـ”أسند إليه في اللحظة الأخيرة؟”
- دعني أروي لك هذه القصة. أثناء تشكيل السيد المالكي حكومته الأولى عام ٢٠٠٦ أتصل بي بعض المسؤولين في الحكومة والبرلمان المقربين من السيد المالكي وقالوا إن رئيس الوزراء المكلف يرغب في أن أتولى أنا هذا المنصب وطلبوا مني (سي في) وقد قدمتها لهم لكنني لم انتظر القرار ولم أتابع الأمر، بل غادرت العراق بعد فترة وجيزة إثر مضايقات تعرضت لها. وبعد فترة شهرين تقريبا اتصل بي احدهم وقال لي لقد اختاروك ناطقا وكنتُ حينها في لندن، إلا أنني وبعد أقل من أسبوع، سمعت عبر وسائل الإعلام عن تعيين شخص آخر في المنصب. لم اهتم لأنني لم أكن راغبا في تولي المهمة وكنت سأرفض المنصب في حال عرضه علي، وسوف أرفضه أن عرض علي مرة أخرى.
لماذا ترفض ؟
- دعني أكون بمنتهى الصراحة: الناطق لا يتحدث إلا مدافعا عن مواقف الآخرين المثيرة للجدل في الحكومة أو ناقلا للأخبار السيئة والآراء غير المحبذة التي عادة ما تزعج الناس. إن كان هناك خبر إيجابي فإن رئيس الوزراء أو أحد نوابه أو وزرائه سوف يسارع لإعلانه على الملأ كي يستفيد منه سياسيا، أما الأخبار السيئة فتترك للناطق كي يصدم بها الناس ويجد لها تبريرات (مقنعة أو واهية اعتمادا على خبرته) وهذا يؤثر سلبا على سمعته ويشوه صورته على الأمد البعيد. لذلك فإن الناطق دائما يلعب دور النذير وناقل الأخبار السيئة والمدافع عن أفعال وأقوال الآخرين التي لا دور له فيها وهذه مهمة لا يحبذها أحد مختارا. قد تقول لكنك قبلت بتولي مهمة الناطق سابقا، أقول، نعم ولكن كانت تلك مرحلة مختلفة جدا وكانت هناك تحديات تستدعي التصدي لها ولابد من أن يتصدى لها أحد، وقد وقع علي الاختيار وتصديت وتحملت ما تحملته من أعباء وتبعات بسبب ذلك.
مع تشكيل الحكومة الجديدة تم تقاسم منصب الناطق باسم الحكومة طائفيا لكن بعد حين أقيل احدهما وأبقي على الاخر، في ظل هذه الفوضى والارتباك وتعدد وسائل الإعلام ووجود موقع الكتروني لمجلس الوزراء الذي يمثل الحكومة، هل نحتاج إلى مثل هذا المنصب؟
- لقد تغير دور الناطق في الحكومة الحالية واصبح منصبا صغيرا يديره موظف تابع للمكتب الإعلامي لرئيس الوزراء ولم يعد منصبا رفيعا كما كان في السابق. لا أدري إن كان هناك تقسيم طائفي لشاغلي الموقع لأنه لا أحد يعرف الهوية الطائفية لأي من الشخصين اللذين توليا هذه المهمة. إقالة احد الناطقين كانت ضرورية لأنه أخفى دورا غير لائق كان قد لعبه في عهد النظام السابق وكان لابد أن يرحل… ما كان عليه أن يقبل بدور الناطق مع وجود مثل هذه الخلفية التي لابد وأن تفتضِح يوما، لكنه للأسف أضر بنفسه وبرئيس الوزراء الذي يبدو أنه اختاره دون تدقيق في سجله الوظيفي. الناطق الآخر ( سعد الحديثي) جيد في رأيي لكنه لا يبدو متحمسا لمهام منصبه فقلما نراه مدافعا عن الحكومة في وسائل الإعلام رغم أن وسائل الإعلام كثيرة ومن الصعب تغطيتها جميعا. أفضل ناطق للحكومة في رأيي هو رئيس الوزراء، لكن انشغاله المتواصل يستدعي وجود ناطق رسمي حقيقي وليس موظفا صغيرا تابعا للمكتب الإعلامي. يجب أن يكون الناطق قريبا من رئيس الوزراء كي يعرف أفكاره وكيفية اتخاذه القرارات والأسس التي تتخذعلى أساسها. أعتقد أن على رئيس الوزراء أن يوكِل مهمة الناطق إلى أحد الوزراء المقربين منه، أو إلى مدير مكتبه أو مستشاره السياسي المقرب كي يسد الفراغ الهائل الموجود حاليا في إعلام الحكومة. الموقع الإلكتروني لا يغطي كل الأخبار ولا ينقل كل الآراء المتعلقة بالقضايا الملحة والمستعجلة، والقائمون عليه لا يعرفون عن الكثير من قرارات الحكومة أو آرائها في مختلف القضايا المستعجلة لذلك لابد من وجود ناطق رسمي يكون متوفرا دائما لوسائل الإعلام كي يطلعها على رأي الحكومة ويوضح لها مكامن الغموض في قراراتها أو سياساتها، ولكن ليس صحيحا أن يكون هناك ناطقان للحكومة، فهذا يعطي انطباعا خاطئا، ولكن من الممكن أن يكون هناك ناطق ومساعدون له.
من خلال تجربتك في المعارضة وعملك السياسي الحر دون الانتماء لاية جهة سياسية، كيف ترى واقع الديمقراطية في العراق وانعكاسها على الجانب الإعلامي وثأثير الجانب الإعلامي عليها؟
- الديمقراطية متعثرة في العراق وهي في الحقيقة في خطر خصوصا مع تزايد عسكرة المجتمع وعدم قدرة الحكومة على ضبط الأمن. كلما ازدادت العسكرة في المجتمع قلت فرص انتشار وممارسة الحريات المدنية وزاد نفوذ الجماعات المسلحة سواء أكانت رسمية أو شبه رسمية. لا أحد ينكر دور الجيش والشرطة والمتطوعين والحشد الشعبي المهم والضروري في مقارعة الإرهاب وصد الهجمات الإرهابية وحماية العراق وشعبه من الطغيان والجريمة ولكن العسكرة والحروب ومظاهر العنف، وإن كان بعضها ضروريا، تؤثر سلبا على الديمقراطية والحريات المدنية وتجعل الناس لا يكترثون للالتزام بها. الاستقرار عامل أساسي وجوهري لرسوخ الديمقراطية والحياة المدنية في أي بلد. دور الإعلام الحر أساسي في تدعيم الديمقراطية ومؤسساتها وقد ساهم الإعلام في نشر ثقافة التعددية والنقد الموضوعي (رغم أن الكثير من النقد لا يبدو لي موضوعيا). بخصوص عملي في المعارضة فقد كان من أجل رفع الظلم عن الشعب العراقي أولا، وكان طموحي أن نتمكن من تأسيس نظام ديمقراطي حقيقي في العراق. كنت اعتقد أن الديمقراطية هي قدر العراق وأن العراقيين قد تعلموا الدروس من دكتاتورية صدام وعائلته التي دامت أكثر من ثلاثة عقود وأنهم سيتمسكون بالنظام الديمقراطي دون غيره.أتذكر أنني شرحت احتمالات نجاح الديمقراطية في العراق في محاضرة لي في جامعة كامبريج في ٢٠ تشرين الثاني عام ٢٠٠٢، وقد نشرت لاحقا في عد من الصحف بينها الإنديبندنت البريطانية، لكنني عندما أعيد قراءة تلك الأفكار حاليا أرى أنني كنت حالما وربما مستعدا للقفز على الكثير من العقبات الحقيقية التي تعترض إقامة نظام ديمقراطي حقيقي في العراق، فقد كان هدفنا الأساس هو إزاحة الدكتاتورية بأية وسيلة.
اكتشفت لاحقا وبعد تجربة العمل في العراق، أنه يوجد بين العراقيين من لا يدرك ضرورة إقامة النظام الديمقراطي الحقيقي لبناء دولة عصرية قوية ومنصفة لكل العراقيين ويتحجج بأننا “لسنا جاهزين” أو أن الديمقراطية “فكرة غربية لا تصلح لمجتمعاتنا”! وهذا غير صحيح لأن الديمقراطية هي قيمة إنسانية عليا وقد أكدت على مبادئها كل الاديان والشرائع وإن لم تذكرها بالاسم ولا ننسى أن مبدأ الشورى الإسلامي هو أحد أهم مبادئ الديمقراطية، وقد أصبحت ضرورة من ضرورات الدولة العصرية لايمكن الاستغناء عنها باي حال من الأحوال. من الضروري أن يتدرب مجتمعنا على احترام الحريات المدنية وأن يعتنق بقوة مبدأ التبادل السلمي للسلطة ويعتبره من المقدسات السياسية التي لا يمكن التخلي عنها حتى وإن تولى السلطة حزب أو إئتلاف سياسي مثير للجدل. الديمقراطية ستضمن تطبيق القانون على الجميع بعدالة وهي مصدر قوة للبلد والمجتمع وهي تخدم الصالح العام في نهاية المطاف لأنها تمنع نشوء الدكتاتورية. ما تزال هناك أخطار تحدق بمستقبل الديمقراطية في العراق ولكن على الارجح فإنها (الديمقراطية المنقوصة حاليا) ستستمر معنا وربما تترسخ وتتطور بمرور الزمن وسبب استمرارها واحتمال ترسخها هو في رأيي وجود التعددية الحزبية وسعي الأحزاب والأشخاص الحثيث للمشاركة في السلطة عبر كسب أصوات الناخبين وعدم قدرة أي من هذه الأحزاب حاليا على الانفراد بها. كما إن حرية التعبير والحرية المتاحة حاليا لوسائل الإعلام سوف تعزز من وجود الديمقراطية وفرضها على الجميع كأمر واقع وهذا سيؤدي إلى قبول المجتمع بها كثقافة عامة بمرور الزمن وعندها لن يكون مستعدا للتخلي عنها.
http://www.almadapaper.net/ar/news/503037/حـمــيــد-الكـــفــــائــي-خططنا-لشبكة–