العراق بين صعوبة الاتفاق وغياب البدائل
الحياة- 29 أيار 2016
قد تكون التعددية السياسية المفرطة في الساحة العراقية السبب الأبرز لبقاء النظام الحالي في العراق، ولولاها لكان سيطر عليه أحد الأقوياء وفرض إرادته على الجميع كما كان يحصل في النظام السابق. لكن تعدد القوى وغياب الأقوى القادر على إخضاع الآخرين لإرادته، قد أجبرا الجميع على التعايش القلق.
من غير المعروف إحصائياً إن كانت هناك غالبية بين العراقيين تتمسك بالنظام الديموقراطي ومستعدة فعلاً للدفاع عنه إن تعرض لتهديد خطير، إذ لا توجد لدينا استبيانات حديثة في هذا المجال يمكن الوثوق بها. بعض مراكز البحوث الأميركية أجرى بعض الاستبيانات قبل الانسحاب العسكري الأميركي تتعلق بمدى شعبية هذه الجهة السياسية أو تلك وهذا الزعيم السياسي أو ذاك، لكنها ربما لم تطرح السؤال الجوهري وهو: «هل تفضل النظام الديموقراطي على غيره؟».
تعتبر مثل هذه الاستبيانات مهمة جداً لمعرفة قدرة النظام الديموقراطي على الصمود أمام الأخطار السياسية التي تهدده، فلا يمكن أي نظام أن يبقى إن كان لا يتمتع بشعبية أو قبول واسعين، يجعلان المؤمنين به يدافعون عنه عند تعرضه لتهديد.
في اليونان مثلاً، أعرب 87 في المئة من المُستَطْلَعة آراؤهم عن أنهم يؤيدون النظام الديموقراطي وأنه الأفضل لهم، بينما بلغت النسبة بين الأسبان 70 في المئة والبرتغاليين 61 في المئة وفق استطلاعات أجريت أثناء فترة ترسيخ الديموقراطية في تلك البلدان مطلع الثمانينات.
في العراق، هناك كثيرون يردّدون أن العراقيين «غير جاهزين للديموقراطية» أو أن النظام الديموقراطي «لا يصلح للعراق» وأن الأفضل هو اختيار نظام «قوي» يؤسس لدولة القانون والعدل، وأن من الضروري البحث عن «رجل قوي» يقود الدولة.
الديموقراطية العراقية تواجه الآن أخطاراً جدية ربما الأكبر منذ انطلاقها قبل 13 عاماً، وهذه الأخطار متعددة الأبعاد والاتجاهات. الخطر الأكبر هو وجود جماعات مسلحة خارج إطار الجيش والشرطة قد تخرج حتى عن سيطرة قادتها، وكذلك ضعف الثقة بالنظام الديموقراطي بسبب الإخفاق في إدارة الدولة وعدم تولي أشخاص أكفاء ونزهاء المناصب المهمة. لو كان هناك نجاح حقيقي لتمسك الناس بالنظام بقوة ووقفوا حائلاً أمام أي خطر يهدّده، لكن توالي الأخطاء واستشراء الفساد وانعدام القدرة على توفير الحد الأدنى من الخدمات الضرورية، جعلت كثيرين يبحثون عن بدائل، وهي بالتأكيد ليست ديموقراطية أو عصرية، ولن تكون في مصلحة حتى من يبحثون عنها، إذ لا يمكن ضمان أن يكون البديل أفضل من المُستَبدَل.
ومع كل الأخطار الخارجية التي تتهدد العراق، ويأتي في مقدمها «تنظيم الدولة» (داعش)، الذي ما زال يسيطر على مساحات شاسعة من البلد منذ عامين تقريباً، فإن الخلافات العراقية آخذة في الاشتداد والتأزم إلى درجة أن البرلمان غير قادر على الانعقاد في شكل أصولي منذ ما يقارب شهرين. والأسوأ أن الجلستين اللتين عقدتا في نيسان الماضي زادتا تلك الانقسامات، إذ أُقيل في إحداهما رئيس البرلمان، سليم الجبوري، وانتُخِب رئيس موقت بديلاً عنه، بينما أُقيل في الثانية المنعقدة في 26 نيسان خمسة وزراء وصُودِق على خمسة بدلاء عنهم، لكن البدلاء (التكنوقراط) لم يتمكنوا من تولي مناصبهم بسبب عدم تمكنهم من أداء القسم الذي يجب أن يؤدَّى أمام البرلمان وفق المادة 79 من الدستور، بينما عجز البرلمان عن الانعقاد. وعلى رغم أن بعض الوزراء المقالين ما زالوا يمارسون مهامهم، إلا أنهم مقالون إن صحت جلسة البرلمان في 26 نيسان الماضي، وإن بقاءهم في تلك الوزارات ربما يفتقر إلى الشرعية. أما الوزراء الذين قبلوا بالإقالة وامتنعوا عن تأدية مهامهم، فقد أصيبت وزاراتهم بالشلل بسبب عدم وجود المسؤول الأعلى الذي بيده الحل والعقد.
ومن المشاكل التي تعاني منها الدولة، تركز الصلاحيات بأيدي الوزراء دون غيرهم، إذ بإمكان الوزير أن يفعل ما يريد من دون أي عائق قانوني، لذلك أصبح من المعتاد جداً أن يأتي الوزير بأقاربه وأتباعه إلى الوزارة ليصبحوا آمرين ناهين على الآخرين بينما يُهَمِّش الآخرين أو يجبرهم على التقاعد أو ربما يُتَّهَمُون بالإهمال أو الفساد «لإقناعهم» بترك مناصبهم كي يملأها آخرون. هذه مشكلة كبيرة ويجب أن ينتبه إليها النظام لأنها ستقوضه من الداخل وتضعف ثقة الناس به وتجعلهم يبحثون عن بدائل وإن كانت سيئة.
أحد النواب المعتصمين أخبرني أنه يسعى إلى التغيير وإن كان البديل المقبل أسوأ، بينما قال آخر إن الطبقة السياسية يجب أن تتغير كلياً والحل الوحيد هو انتخابات جديدة تحت إشراف الأمم المتحدة يُمنع فيها من تولوا مناصب تنفيذية أو تشريعية سابقاً من الترشح.
وبينما تحقق القوات العراقية تقدماً ملحوظاً في حربها على الجماعات الإرهابية، فإن الانسداد السياسي بلغ مرحلة هي الأخطر، ومع ذلك لم يقدم السياسيون أي تنازل يحفظ تماسك البلد. الجميع الآن ينتظر قرار المحكمة الاتحادية بخصوص جلستي البرلمان كي يُحسَم الخلاف ويعود البرلمان إلى الانعقاد. لكن عودته وحدها لن تحل المشكلة، لأن الاحتجاجات المطالبة بالإصلاح والقضاء على الفساد، وصلت إلى مرحلة خطيرة إذ اقتحم متظاهرون مبنى المجلس وضربوا عدداً من النواب ثم اقتحموا مقر رئاسة الوزراء وعبثوا به. المتظاهرون لن يهدأوا إلا بتشكيل حكومة مؤلفة كلياً من التكنوقراط، لكن مثل هذه الحكومة ليس مقبولاً لدى القوى السياسية الأخرى خصوصاً مع بقاء رئيس الوزراء في منصبه لأنه سياسي ينتمي إلى كتلة دولة القانون وحزب الدعوة الإسلامية. الأحزاب الأخرى تشعر بأن بقاء حيدر العبادي في منصبه سيكون على حسابها، لأنه سيتمكن من تحقيق أجندة حزبه، ويستخدم منصبه لتوسيع دائرة أتباعه بينما تُحرم تلك الأحزاب من المكاسب التي توفرها لها المناصب. الحل الذي يُرضي الجميع غائب حالياً لأنه يتطلب تضحيات وتنازلات لم يقتنع معظم القادة السياسيين بضرورة تقديمها. المثال التونسي في الإيثار السياسي الذي مارسه حزب «النهضة» في التنازل عن قيادة الحكومة لمصلحة مرشح مستقل، ما زال غائباً في العراق، وما لم يدرك القادة السياسيون حجم الأخطار التي تواجههم فإن الوضع آخذ في التفاقم.