الدفاع عن الدولة العراقية يتطلب التزام قوانينها
الحياة، ١٥ يونيو/ حزيران ٢٠١٦
لا شك في أن الحروب تظهِر أسوأ ما في الإنسان من نوازع الشر وانحطاط القيم الأخلاقية التي يتغنى بها في الظروف الطبيعية. وقد نميل، نحن المدنيين الذين نعيش في ظروف طبيعية، إلى المثالية عندما نطالب المتقاتلين الذين يعيشون في ظل أجواء من التوتر والعداء، بأن يتحلوا بالأخلاق الرفيعة في تعاملهم مع أعدائهم وأن يكونوا رحماء بمن يسعون إلى قتلهم عند التغلب عليهم والظفر بهم أحياء، خصوصاً أن المتحاربين عادة ما يكونون من الأشداء الذين عَرَكَتهم ظروف الحرب والقتال وجعلت أولوياتهم هي إفناء المقابل.
وعلى رغم كل محاولات تثقيف المتقاتلين بشروط القتال وحقوق الإنسان وأهمية حماية المدنيين وتجنيبهم فظائع الحروب، وحقوق الأسرى وضرورة التعامل الإنساني معهم، وتهديد المخالفين بأشد العقوبات عند ارتكابهم أي مخالفة، فالتعامل في ظروف الحرب يبقى أقرب إلى الاعتباطية، وأحياناً الهمجية، منه إلى الإنسانية والتزام القوانين، وإن المقاتل سيبقى محكوماً بنزعة البقاء المقرون بالقضاء على العدو، وربما مهووساً بقتل الآخر وتجريده من إنسانيته، وقد يكون من المثالية أن نطالبه بأن يتصرف كما لو كان يعيش في ظل ظروف طبيعية وألا يكون كما تفرض عليه ظروفه: مقاتلاً شديد البأس.
العراق لم يألف الاستقرار إلا في فترات قصيرة. فمن الحروب العثمانية-الإيرانية إلى الحروب العالمية التي كان مسرحاً لها، إلى الثورات المقاومة للاحتلال البريطاني، مروراً بالإنقلابات الدموية، منذ إنقلاب بكر صدقي عام 1936 (الأول في العالم العربي)، ثم الانقلاب المناصر للنازية عام 1941، الذي نصّب رشيد عالي الكيلاني رئيساً للوزراء، ما دفع بريطانيا إلى احتلال العراق مرة ثانية وإزاحة الانقلابيين وإعادة النظام الملكي إلى الحكم. وقد قام الأخير بإعدام الانقلابيين وإبقاء جثثهم معلقة في الشوارع لأيام. سلسلة الانقلابات لم تتوقف، وفي 1958 أطاح انقلاب عسكري بالنظام الملكي وقتل قادته بمن فيهم أفراد العائلة المالكة، وتبعه انقلاب دموي آخر أطاح بالانقلابيين السابقين وقتلهم ثم توالت الانقلابات، حتى جاء انقلاب صدام حسين على رفاقه عام 1979 الذي صفّى جسدياً كل منافسيه ومارس شتى صنوف القمع والقتل والتهجير ومصادرة الأموال وإسقاط الجنسية عن عراقيين، إذ انتُهِكت حتى القوانين القاسية التي سنها النظام نفسه. وبسبب غياب آلية الحوار بين الحاكم والمحكوم، اضطر المتذمرون إلى الاستعانة بالدول الأخرى وحمل السلاح ضد الحكومة التي استخدمت كل قواها المدنية والعسكرية لملاحقتهم وقتلهم. وقد حصل هذا في كل مناطق العراق التي شهدت معارضة للنظام، ولم يكن العنف موجهاً ضد طائفة أو قومية محددة بل ضد كل المعارضين والمخالفين.
وكأن القمع والسجن والملاحقة لم تكن كافية، فقد شن النظام حرباً ضروساً على إيران دامت ثماني سنوات ارتكبت فيها شتى الجرائم بحق العسكريين والمدنيين العراقيين (المتخاذلين)، وراح ضحية تلك الحرب من العراقيين فقط ما لا يقل عن مليون إنسان بين قتيل ومعاق ومفقود. وبعد عامين فقط من تلك الحرب المدمرة، شن النظام حرباً على الكويت واحتلها، ما استدعى جيوش العالم لأن تأتي لتحريرها فتقتل العراقيين وتدمر البنية الأساسية لبلدهم ثم تفرض حصاراً اقتصادياً قاسياً ساهم بقوة، إلى جانب الحروب والقتل والقمع والسجون والتهجير، في زرع القسوة عند الإنسان العراقي، وجعل كل مظاهر العنف والقتل والتعذيب تبدو مألوفة في المجتمع. وبعد أن أنهكت الحروب والحصار الناس وجعلتهم يستنجدون بالعالم وينشدون التغيير بأي ثمن، جاءت القوات الأميركية لتزيح النظام في حرب لم تُطِح بالنظام السياسي فحسب، بل بالنظام العام والأمن والجيش والشرطة، وخلقت فوضى عارمة سيبقى العراق يعاني من آثارها إلى أمد غير معلوم. وكنتيجة للقسوة والحروب والحصار، ظهر التطرف الديني الذي مارس شتى صنوف التخريب والقتل والتعسف مرة باسم محاربة المحتل وأخرى بذريعة تطبيق الشريعة وثالثة لمحاربة المرتدين أو الروافض أو النواصب أو البعثيين. والغريب في التطرف الديني أنه يقسو على الجميع، حتى المنضوين ضمن تنظيماته عند بروز أي خلاف بينهم. وقد مارس «تنظيم الدولة» بعد احتلاله الموصل شتى صنوف القتل والتعذيب والتعسف بحق المدنيين، ونال الأيزيديون والمسيحيون الجزء الأكبر منها، حتى أن نساءهم قد بعنَ سبايا في أسواق النخاسة. أما تدمير الآثار والمباني التاريخية وهدم القبور، الذي طاول حتى الأنبياء، فلا يعلم أحد بحجمه، وربما لم يبقَ أي أثر تاريخي في الموصل، مهد الحضارات وموقع الجنائن المعلقة التي بناها الملك سنحاريب وفق الأبحاث الآثارية الأخيرة للباحثة البريطانية ستَفني دالي.
الآن تستعد الدولة العراقية لاستعادة السيطرة على المناطق الخارجة عن سيطرتها، بعد عامين من سيطرة داعش عليها، لكن هل يمكن أن نضمن ألا تحصل تجاوزات في الحرب على الإرهاب وألا يُقتل مدنيون وألا يعتدى على الأسرى؟ هذا هو الاختبار الحقيقي الذي يجب على الدولة بكل مؤسساتها الأمنية والسياسية والقضائية والدينية ومنظمات المجتمع المدني أن تنتبه إليه. ثقافة حقوق الإنسان بين العسكر وقوى الأمن كانت غائبة تماماً، وما تزال ضعيفة وهناك ضرورة قصوى لأن تضطلع الحكومة والأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني والمؤسسات الدينية في تعميق هذه الثقافة، لحماية الإنسان من العنف والتعسف، وكذلك لدعم التماسك الوطني لأن أي انتهاك سوف يفسر على أنه تمييز طائفي أو عرقي. هناك غضب عراقي عارم من جرائم الإرهابيين العشوائية التي راح ضحيتها مئات الآلاف من المدنيين، وهو مفهوم، لكنه يجب أن يتوجه ضد الإرهابيين فقط، ولا يشمل أهالي المناطق التي سيطروا عليها، فهؤلاء هم ضحايا الإرهاب ويحتاجون إلى الحماية والرعاية.
من يحارب من أجل الدولة يجب أن يلتزم قوانينها وأوامر قياداتها العسكرية ويحافظ على حقوق الإنسان ويحمي الأسرى ويساعد المدنيين. من يقلد الإرهابيين في أخلاقهم وجرائمهم ويبحث عن الأخذ بثارات طائفية، فإنه في الحقيقة يساعد على تنفيذ أجندات الجماعات الإرهابية التي تتمنى أن تدفع المدافعين عن الدولة المدنية للتصرف كما يتصرف الإرهابيون. هؤلاء يجب ألا يكون لهم مكان في الجيش أو أي مؤسسة أمنية أو عسكرية لأنهم لا يخدمون الدولة ولا المجتمع ولا حتى الطائفة التي ينتمون إليها، حتى وإن كانت نواياهم صادقة في الدفاع عن الدولة. رجال الدولة لا ينتهكون القانون ولا يهاجمون الآخر إلا عند الدفاع عن النفس ولا يقلدون الإرهابيين والمجرمين في أفعالهم.
حميد الكفائي
http://www.alhayat.com/Opinion/Writers/16088697/%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%81%D8%A7%D8%B9-%D8%B9%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%88%D9%84%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A7%D9%82%D9%8A%D8%A9-%D9%8A%D8%AA%D8%B7%D9%84%D8%A8—-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B2%D8%A7%D9%85-%D9%82%D9%88%D8%A7%D9%86%D9%8A%D9%86%D9%87%D8%A7