الحياة، ٢٤ يونيو/ حزيران ٢٠١٦
كان خبراً عابراً نشر في موقع الكتروني حول إقامة مهرجان ديني في بابل، المدينة التاريخية التي سُن فيها أول قانون عرفته البشرية (مسلة حمورابي) وكانت مهد الحضارة التي سميت باسمها، لكنه أشعل موجة من الاحتجاجات الغاضبة بين العراقيين الذين استنكروا ما ورد فيه من أن جهات دينية تعتزم تغيير اسم المدينة الـــتاريخية إلى «مدينة الإمام الحسن». لماذا يعقد هذا المهرجان سنوياً في بابل، وما هي علاقة هذه المدينة بالإمام الحسن وأسئلة أخرى كثيرة بدأت تطرح في كل المنابر والمجالس، لكن لم تجد لها أجوبة مقنعة.
«العتبة الحسينية»، التي تدير مرقد الإمام الحسين في كربلاء، نفت أن تكون لها أي خطة لتغيير اسم بابل، وقد فعلت «العتبة العباسية» الشيء نفسه، غير ان الأسئلة حول الموضوع وعرائض الاحتجاج ما زالت تترى.
لقد طُرح موضوع تغيير اسم بابل للمرة الأولى قبل سنوات عدة عندما بدأ «مهرجان الإمام الحسن» يعقد فيها، لكن الموضوع أثار حينها احتجاجات واسعة، فتخلى عنه متبنّوه، وظن الناس أن الأمر انتهى، لكنه عاد إلى الواجهة قبل أيام، ما يدل على أن الفكرة ما زالت قائمة وأن هناك من يسعى إلى تنفيذها مهما طال الزمن، وأن اسم بابل الذي يحمل مضامين تاريخية ومعنوية للعراق، سيتغير إلى اسم ديني كي تلتحق بالمدن المقدسة الأخرى، وتحمل اسم الإمام الحسن بن علي، على رغم أنه لا أحد يزعم، حتى الآن على الأقل، أن هناك علاقة بين المدينة والإمام.
تغييـــــر أسماء المدن والشوارع والأحياء ليس جديداً، إذ أقدم النظام السابق على تغيير العديد من أسماء المدن والأحــــياء والشــــوارع العراقية، فقد أطلق اسم «المثنى» على منطقة السماوة عندما تحــــولت إلى محـــافظة، باعتبار أن القائد العـــربي المثنى بن حارثة الشيباني ـــقد عسكر بها ذات يوم، كما أطلق اسم «القادسية» على محافظة الديوانية باعتبار أن الجيــــوش الإسلامية التي غزت إيران في معـــركة القادسية قد عسكــــرت هنـــاك، واسم «صلاح الدين» على محافظة مركزها مدينة تكريت التأريخية، لأنها مسقط رأس صلاح الدين الأيوبي، بينما أصبحت الرمادي «الأنبار»، والعمارة «ميسان»، والناصرية «ذي قار»، والكوت «واسط»، والثورة «مدينة صدام»، ومطار بغداد «مطار صدام»، وهكذا.
ولم تهدأ الحماسة لتغيير الأسماء بعد سقوط نظام صدام، بل تجدد على أيدي معارضيه المستائين من الأسماء التي أطلقها النظام السابق على المدن والأحياء والشوارع والمستشفيات والمدارس، فغيروا الكثير منها، لكنهم اصطدموا بتعلق الناس ببعضها كونه ملتصقاً بحضارة العراق وهوية أبنائه. شارع الرشيد مثلاً، معلم مهم من معالم بغداد، وعلى رغم أن هارون الرشيد لا يروق للبعض، إلا أنهم قبلوا به على مضض فبقي الاسم وأُهمِل الشارع. حي المنصور الذي يحمل اسم مؤسس بغداد، أبو جعفر المنصور، من أهم أحياء العاصمة وأجملها ولن يقبل البغداديون بتغيير اسمه أو إزالة تمثال «المنصور» منه، والذي أزيل لفترة من الزمن لكنه عاد بسبب الإستياء الشعبي من إزالته. شارع «أبو نؤاس» المحاذي لنهر دجلة من أهم وأجمل شوارع العاصمة، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن يُزال هذا المعلم التاريخي من العاصمة وإن لم يستحسِن البعض سيرة الشاعر أبي نؤاس (الحسن بن هانئ) الذي كان نديماً للخليفة العباسي ولم يكن ملتزماً دينياً.
قد لا يهتم كثيرون إن تغير اسم «المثنى» إلى «السماوة»، وفعلاً لم يهتم أحد عندما ألغي اسم «القادسية» لتعود المحافظة إلى اسمها السابق المفضل لدى سكانها، لكن العراقيين لن يقبلوا بإلغاء اسم «بابل» لأنه جزء أساسي من هويتهم الثقافية والتاريخية التي يعتزون بها. تقع بابل إلى جوار مدينتي كربلاء والنجف اللتين تمتلئان بالزائرين في المواسم الدينية، وقد يكون هناك من يفكر بضم بابل إليهما لاستيعاب الأعداد المتزايدة من الزائرين، أو ربما هناك من يتوهم بأن وجود بابل قد يقلل من أهميتهما التاريخية والدينية، لكن الحقيقة أن بابل ترفع من مكانة العراق العالمية.
الحجة التي سيقت لتغيير اسم بابل هي أن «أهلها يتميزون بالكرم وأن الإمام الحسن قد عرف تاريخياً بالكرم»! لكن هذا التبرير لم يقنع أحداً، أولاً لأهمية بابل العالمية، وثانياً لأن أهل بابل لم يتميزوا وحدهم بالكرم بل كل أهالي منطقة الفرات الأوسط، التي تضم مدناً كثيرة، قد تميزوا بذلك ومن عاداتهم إنشاء «المضافات» لاستقبال الغرباء وإطعامهم وإيوائهم من دون سؤالهم حتى عن أسمائهم، إلا بعد ثلاثة أيام كما جرت العادة. بل إن بعض المدن مثل «الشنافية» كانت إلى عهد قريب تخلو من الفنادق والمطاعم، فهناك مضافة «آل مكوطر» تستقبل الضيوف وتطعمهم وتأويهم مجاناً منذ القدم. ولو افترضنا أن أهل بابل قد تميزوا عن غيرهم بالكرم، فهل يبرر هذا إلغاء اسم تاريخي تميز به العراق وتغنى به العالم واقترن بعجائب الدنيا السبع؟ هل من المعقول أن تلغى الأسماء الحضارية الموغلة في القدم والمرتبطة بوجدان الناس تحت ذرائع دينية؟ أم أن هناك أسباباً أخرى، ربما تجارية، أو تتعلق بالطابع التاريخي لبابل والذي قد يقلل، في نظر البعض، من الأهمية التاريخية والدينية للمدن المجاورة؟
الجماعات المتشددة لديها مشكلة مع التاريخ والآثار لأنها لا ترتبط بمعتقداتها، فـ «طالبان» لم يهدأ لها بال إلا بعد أن هدمت تماثيل بوذا في باميان، و»داعش» اعتبر تحطيم «الثور المجنح» وهدم قبر النبي يونس في الموصل إنجازين عظيمين قدمهما للبشرية. الضيق بالتاريخ ينطلق من أهميته لدى الشعوب، فليست هناك أمة لا تعتز بإرثها التأريخي والحضاري. لكن الغريب أن الدعوة إلى تغيير اسم بابل، والتي تلاشت بسرعة تحت صرخات الاستهجان والغضب الشعبي، تتزامن مع انتصار العراق على الجماعات الإرهابية في الفلوجة. فهل من المعقول أن يكون بين العراقيين من يشارك الجماعات الإرهابية أهدافها في القضاء على إرث العراق؟ تاريخ العراق الذي يمتد آلاف السنين ميزة فريدة له يجب أن تعتز بها الأجيال وتصونها، أما الأصوات المعادية للتاريخ فعليها أن تتحرر من هذا الوهم لأن الحضارات تمتلك مقومات البقاء.
حميد الكفائي
http://www.alhayat.com/Opinion/Writers/16254982/%D8%A8%D8%A7%D8%A8%D9%84-%D8%A3%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D9%85%D8%A7%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B3%D9%86-%D8%A8%D9%86-%D8%B9%D9%84%D9%8A%D8%9F