الحياة، ١٥ نوفمبر/ تشرين الثاني ٢٠١٦  

لم تكن المرة الأولى التي يتأثر فيها البسطاء بخطاب الكراهية، بل يكاد يكون الأمر طبيعياً في كل بلدان العالم، الديموقراطية منها والتقليدية. وعلى رغم أن بعض الشعوب أكثر وعياً من غيرها بمصالحها وبطبيعة الخطابات الموجّهة إليها، إلا أن السائد أن معظم الناس، متعلّمين كانوا أم بسطاء، يتبعون نوازعهم الأساسية المتأصلة في نفوسهم، وهي في أكثر الأحيان نوازع يختلط فيها الإنساني والعدواني، لكن ما يميز كثيرين هو تصديق الهواجس والمشاعر والبقاء أسرى المخاوف والشكوك وعدم السعي للتأكد من صحة ما يشعرون به من خطر أو قلق أو ثقة أو أمل.

لقد كان فوز دونالد ترامب في انتخابات الرئاسة الأميركية مفاجئاً لمعظم المراقبين، ليس لأنه يميني متطرف، بل لأنه عديم الخبرة السياسية ويجهل تعقيدات السياسة الدولية، وقد اتضح ذلك في اللغة التي استخدمها، والتي لا تمت إلى السياسة والديبلوماسية بصلة، كدعوته الى حظر دخول المسلمين أميركا وإقامة جدار عازل مع المكسيك وإعادة مئتي ألف لاجئ إلى بلدانهم! مثل هذا الكلام لا يقوله سياسي ولم يقله حتى أكثر السياسيين المعاصرين تطرفاً. لم تتميز حملة ترامب الانتخابية بشيء سوى المواقف المتطرفة، وكان أداؤه في المناظرات الرئاسية التي جرت بينه وبين هيلاري كلينتون متدنياً، إذ أبدى جهلاً لافتاً في الشؤون الخارجية، حتى أنه اتهمها بأنها كانت تحت تأثير المنشطات بسبب تفوّقها عليه. وقد ردت بأنها فعلاً كانت تتناول المنشطات ألا وهي «الإعداد المسبق» للمناظرة. أما زوجته (السيدة الأولى) فلم تتمكن من إعداد خطاب خاص بها، فكررت خطاب ميشيل أوباما أمام الحزب الديموقراطي عام 2008! لا شك أن ضعف كلينتون والأخطاء التي اقترنت بها وبزوجها خلال ربع قرن، كانت من أهم أسباب فوز ترامب، لكن المُحيِّر هو لماذا لم يتنبأ أحد بهذا البركان الثائر؟ لماذا أخطأت كل استطلاعات الرأي في أن تتنبأ بفوز ترامب الذي لم يكن هامشياً؟

أحد التفسيرات ما أعلنته امرأة هندية مسلمة في مقال لها، وهو أنها كانت تخشى ردود الأفعال عند إعلان تأييدها ترامب بسبب مواقفه الفجة من النساء والمسلمين والمهاجرين والجيران وغيرهم، وأنها متأكدة أن الرئيس ترامب لن ينفّذ ما وعد به. كثيرون ربما شاركوها تلك المشاعر، فكانوا يؤيدون ترامب لكنهم كانوا مُحرَجين في إعلان تأييدهم له. وهذه ظاهرة جديدة أن يؤيد الناخب مرشحاً لكنه يستحي من إعلان تأييده له، لكن السؤال الأهم الذي لا يمكن الإجابة عنه من دون دراسة مستفيضة للوضع الاقتصادي والاجتماعي الأميركي، هو لماذا يختار الناخبون التصويت لمرشح على رغم معرفتهم بآرائه المتطرفة وسياساته غير العملية؟

هل سينفذ الرئيس ترامب كل ما أعلن عنه أو وعد به المرشح ترامب أثناء الحملة الانتخابية؟ بالتأكيد لا، لأن كثيراً مما قاله ووعد به غير قابل للتنفيذ إضافة إلى كونه ضاراً بمصلحة أميركا ولا يليق بها كدولة عظمى غنية. كما أن صلاحيات الرئيس في كل البلدان الديموقراطية ليست مطلقة، فهو لا يدير البلد وحيداً بل بالمشاركة مع المؤسسات الأخرى، الساندة منها والرقابية، وأن إدارته ستتبع خططاً مدروسة دراسة مستفيضة تضع مصلحة أميركا قبل كل وعوده المستحيلة. الرئيس الأسبق جورج بوش مثلاً، كان قد أطلق شعار «لا لضرائب جديدة» أثناء حملته الانتخابية عام 1988، إلا أنه سرعان ما استبدله بشعار آخر بعد فوزه هو «لا للوعود المستحيلة»!

انتخاب ترامب سيعزز من النزعة اليمينية في العالم لما للولايات المتحدة من تأثير في السياسة الدولية، وقد أعلن العديد من الأحزاب اليمينية الغربية ترحيبه بفوزه، فهذه الأحزاب تزدهر عادةً على خطاب الكراهية ضد المختلف دينياً أو لونياً أو عرقياً أو ثقافياً، ولومه على كل ما تعتقده من مشاكل، وهذا ما تسبب في استهداف مجاميع سكانية معينة على مر العصور. قد لا تكون الجماعات المستهدفة مختلفة حقاً، فالاختلافات يمكن أن تخلق من العدم بسبب الخوف من المجهول وتوهم خطر الآخر. من يبحث عن الفروق بين الناس فسيجدها، فإن لم تكن موجودة في اللون والعرق والدين والثقافة والتوجه السياسي، فهي في الثروة والمصلحة والتاريخ والجغرافية والمناخ والسلوك الاجتماعي والحياتي. بريطانيا مثلاً، لديها أربعة أعلام رسمية هي الإنكليزي والاسكتلندي والولزي والإرلندي (تشكل معاً علم المملكة المتحدة)، ويسري فيها قانونان هما الإنكليزي والاسكتلندي، بينما توجد أقوام أخرى تشعر بالتميز كالكورنيين والجورديين.

التقلبات السياسية والاجتماعية التي تحصل في العالم في فترات مختلفة يستغلها المتنفذون لأسباب مختلفة، والمجتمعات الناجحة هي التي يقودها مخلصون يحملون أفكاراً إنسانية سامية تخلو من التعصب والأنانية والطموح السياسي الجامح الذي يسعى البعض إلى تحقيقه على حساب المصلحة العامة. الموجات اليمينية العالمية المتطرفة تقوى وتخفت وفق الظروف الاقتصادية السائدة، وتوافر أو غياب القادة الوطنيين في الاتجاهين المحافظ والتقدمي، وغالباً ما كان المهاجرون السبب الرئيس لتأجيجها، لكنها تخفت في فترات الرخاء الاقتصادي عندما يسود التسامح وبروز قادة وطنيين يخططون لمصلحة البلد البعيدة الأمد.

وغالباً ما يتزامن التوجه نحو اليمين أو اليسار في البلدان المنسجمة ثقافياً. بريطانيا والولايات المتحدة مثلاً، تشتد أو تخفت فيهما هذه النزعات في فترات متقاربة. في أواخر السبعينات، اتجهت بريطانيا اتجاهاً حاداً نحو اليمين بسبب تشدد اليسار، وفازت مارغريت ثاتشر في الانتخابات، وفي الفترة نفسها، فاز الرئيس الجمهوري رونالد ريغان في أميركا وتناغمت سياسات الزعيمين إلى حد التطابق. وفي التسعينات، بدأت أميركا وبريطانيا تتجهان يساراً، حتى أن حزب المحافظين في ظل زعامة جون ميجور، اقترب كثيراً من الوسط ليصبح في ظل قيادة كاميرون، التي تزامنت مع رئاسة أوباما، وسطياً لا تكاد تجد اختلافاً بينه وبين اليسار. لكن بريطانيا بدأت تتجه مرة أخرى نحو اليمين، وفاجأت الجميع بتصويتها على الخروج من الاتحاد الأوروبي، وها هي أميركا الآن تتجه نحو أقصى اليمين في ظل رئاسة ترامب الذي يعزز بدوره من قوة اليمين البريطاني وسطوته.

ومهما كان الاتجاه السياسي، تبقى المصلحة المعيار الأساس في ظل الأنظمة الديموقراطية، وما يساعد على تصحيح المسار الخاطئ هو الرقابة المتواصلة والإعلام الحر والحدود الزمنية المفروضة دستورياً على بقاء الرؤساء والزعماء في السلطة.

 

حميد الكفائي

 

 http://www.alhayat.com/Opinion/Writers/18527003/%D8%AE%D8%B7%D8%A7%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D9%83%D8%B1%D8%A7%D9%87%D9%8A%D8%A9-%D8%A5%D8%B0-%D9%8A%D8%B1%D8%A8%D9%83-%D8%A7%D9%84%D8%AE%D8%B5%D9%88%D9%85-%D9%88%D9%8A%D9%82%D9%84%D9%82-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%84%D9%81%D8%A7%D8%A1