ببالغ الحزن والأسى أنعى صديقي العزيز الدكتور نجاح كاظم، أستاذ الفيزياء والهندسة في جامعة هاتفيلد البريطانية، الذي غادر ولم يبلغ بعد الثالثة والستين من العمر، ولم يكن يعاني حسب علمي من أي مرض، لكنه أصيب بأزمة قلبية لم تمهله سوى دقائق. صدمني رحيل نجاح وغمرني بحزن عميق. وأنا الذي افتخر بالجَلَد والصلابة، وقلما أبكي، اجهشت بالبكاء لأول مرة منذ سنين.
تعرفت على نجاح أواخر الثمانينيات من القرن الماضي إذ جمعنا العمل المعارض للدكتاتورية وعملنا معا في أنشطة كثيرة معظمها اجتماعي وثقافي وطني. كنت قد أسست نشاطا ثقافيا أسبوعيا في لندن باللغة الإنجليزية، وقد احتجت إلى مساعدة المثقفين الذين يجيدون اللغة الإنجليزية كي يشاركوا معي في ذلك النشاط. وأول من اتصلت بهم كان نجاح كاظم، الذي كان دائما غائبا عن هاتفه الأرضي، فكلما اتصلت به، واجهني صوته المسجل يعتذر عن الإجابة بسبب الغياب أو الانشغال. وفي المرة الأخيرة تركت له تسجيلا شرحت له سبب اتصالي وطلبت منه أن يتصل بي وقد اتصل فعلا.
شارك نجاح معي في تلك النشاطات الثقافية والحقوقية لشرح القضية العراقية باللغة الإنجليزية أيام الأحد من كل أسبوع في مقر رابطة الشباب المسلم في ميدافيل بلندن، وكنا نشرح انتهاكات حقوق الإنسان في العراق بين مواضيع أخرى كالبيئة والصحة والتعليم والثقافة بالإضافة إلى تبادل الأخبار حول أوضاع أهلنا الصعبة في العراق، وكان نجاح أحد المتحدثين في تلك النشاطات باعتباره مثقفا يجيد التحدث بالإنجليزية بطلاقة، إلى جانب ناشطين آخرين بينهم الدكتور حيدر العبادي الذي ابتدأ النشاط بمحاضرة له، وكان بين المشاركين أيضا طيب الذكر الأستاذ كاظم الخفاف قبل أن يغادر إلى الولايات المتحدة.
اتصف نجاح بالنشاط والجدية واحترام الوقت احتراما كبيرا. كان وسيما ورشيقا وذكيا وخبيرا في مجال تخصصه وهو التطور العلمي ودوره في النمو الاقتصادي وتطور البلدان النامية وقد أصدر عدة كتب حول الصين والهند وجنوب شرق آسيا وكيف تمكنت تلك البلدان الفقيرة من تحقيق النمو الاقتصادي عبر التطور العلمي. وكان في التسعينيات يشرف على إصدار مجلة حوار 21 باللغتين العربية والإنجليزية والتي تحولت لاحقا إلى مجلة الراصد التنويري التي تواصل الصدور حتى الآن.
كان نجاح لا يمل ولا يكل من العمل إذ كان يستثمر كل دقيقة من وقته في عمل مفيد، وكأنه في عجلة من أمره، فقد كان سريعا حتى في مشيته، وكانت هذه الميزة، استثمار الوقت وعدم إضاعته إلا بالمفيد من الأعمال والنشاطات، هي التي مكنته من تحقيق كل هذه الإنجازات خلال فترة قصيرة نسبيا. افترقت بنا الطرق والمشارب عندما غادرت إلى العراق بعد سقوط النظام عام 2003 ثم بعد ذلك إلى أمريكا ثم إلى السودان عام 2009 وأخيرا إلى العراق مرة أخرى، واصبحنا أنا ونجاح نلتقي في المناسبات فقط.
قبل ثلاثة أسابيع تحديدا التقيت بنجاح في تأبين أحد الراحلين من معارفنا في لندن، وكان ذلك اللقاء هو الأول منذ سنوات، وشاءت الأقدار أن يكون الأخير. جلسنا معا نتناول طعام العشاء الذي كان للأسف (العشاء الأخير) لنا معا، وتحدثنا كثيرا عن الماضي والحاضر والمستقبل. حدثني عن نشاطاته واصداراته وتبادلنا أرقام الهواتف مرة أخرى واتفقنا على ألا نفترق طويلا هذه المرة بل نلتقي في فترات أقصر لتنسيق جهودنا الثقافية. بعثت له ليلة أمس رابط مقالي الصادر اليوم في جريدة الحياة على “الواتس آب” وكنت أتوقع اننا سوف نتبادل الآراء حول المواضيع التي طرحتها في المقال. وفي وقت متأخر من مساء اليوم جاءني الخبر الصادم وهو رحيل نجاح المفاجئ إلى العالم الآخر. والمؤلم أن نجاح رحل بعد أشهر من رحيل أخويه الآخرين، الواحد تلو الآخر… ففي غضون عام واحد رحل الأخوة الثلاثة إلى العالم الآخر في مأساة عائلية قلما تتكرر.
كان نجاح حقا اسما على مسمى، وكلما رأيته تذكرت أن اسمه ينطبق عليه تماما… كان قصة نجاح حقيقية في الحقل الأكاديمي والصحافة والكتابة والثقافة والنشاط الاجتماعي… كان يجد الوقت لكل ذلك لأنه نظّم حياته بطريقة مكنته من أن يوزع وقته الثمين على كل هذه النشاطات… إنتهت اليوم قصة النجاح هذه ورحل نجاح كاظم إلى العالم الآخر ليستريح بعد حياة مليئة بالإنجازات، لكنه ترك جرحا عميقا في قلوب محبيه وأصدقائه ورفاقه في النضال من أجل الحرية والكرامة، خصوصا وأنه رحل قبل أوانه فمازال الكثير ينتظر الإنجاز إذ كان مصمما على تقديم المزيد مما اكتسبه من علوم وثقافات عبر أبحاثه وأسفاره الكثيرة. لقد رحل نجاح مسافرا، فقد داهمه الموت أثناء رحلة عمل في مانيلا في الفلبين.
إنها خسارة كبيرة للعراقيين جميعا وللعلم والثقافة أن يرحل شخص بهذه الهمة والقدرة والجد والمثابرة والذكاء والأريحية والإيثار. أبحث عن عزاء فلا أجد سوى أن نجاح، أكثر من كل الأصدقاء الذين عرفتهم، قد استثمر وقته كله للعمل الجاد من أجل النفع العام ونشر العلم والحقيقة، وكأنه كان يشعر بأن مكوثه في هذه الدنيا لن يطول كثيرا فأصر على التعويض عن رحيله المبكر. لقد أنجز خلال حياته القصيرة ما لم ينجزه كثيرون توفرت لهم فرص وظروف مماثلة.
كنا نطمح في المزيد من نجاح، رغم أنه لم يبخل أبدا، إذ قدم لنا كل ما لديه حتى آخر لحظة من حياته. وكنا نأمل في أن نستمتع بصحبته لفترة أطول في هذه الحياة التي سنغادرها جميعا، لكنه استعجل الرحيل ليهدأ ويستريح بعد طول عناء. وكأن العراق تنقصه المآسي والويلات كي يضيف لها نجاح مأساة جديدة. لقد كان سريعا في كل شيء، وكان أسرع في رحيله، لكن ذكراه لن تغادر سريعا وإنجازاته وأفكاره وكتبه وأعماله ستبقى تنير الطريق. ومع كثرة مآسينا، فإن جمرة غياب نجاح ستبقى متأججة في القلب حتى يتوقف نبضه.
حميد الكفائي
أخي العزيز الاستاذ حميد الكفائي المحترم …