أرسل لي أحد الأصدقاء من أصحاب الرأي والجرأة رسالة إثر قراءته مقالي الأخير في (الصباح) المعنون “من يطلق الرصاصة الأولى” وقد بدأها بالعبارة التالية “على من تلقي مزاميرك يا داوود؟ الحكم عقيم والسياسة لا دين لها”! وقد تأملت كثيرا في عبارته هذه وتساءلت مع نفسي “قد أكون طوباويا في مطالبتي للسياسيين العراقيين أن ينبذوا الطائفية التي توصلهم إلى مناصب لا يصلون إليها إلا من خلال المحاصصة، فكيف لإنسان طموح يريد أن يصبح قائدا في المجتمع أن يضحي بفرصة توصله إلى هدفه حتى وإن كانت هذه الفرصة على أسس طائفية أو قومية، خصوصا بوجود محفزات مالية واعتبارية ممتازة ترافقها بل وتبقى طويلا بعد زوالها.
لكنني عدت وتذكرت أن العظام والمؤسسين في التاريخ لم يميزوا بين البشر في أقوالهم أو أفعالهم. وأود أن استثني الأنبياء والأئمة من أمثلتي هنا لأنهم مسددون إلهيا وهم بالتأكيد فوق مستوى البشر. كذلك لا أريد أن أذهب بعيدا في التاريخ كي لا يقال إن الزمن قد تغير كثيرا ولم تعد الدنيا تجود بأمثال أولئك العظام. بل أنطلق من الحاضر وأضرب أمثلة حية منه. هل نال نلسن مانديلا أعجاب العالم لأنه طالب بحقوق السود فقط أم لأنه طالب بإلغاء العنصرية والتمييز في بلده وأصر على مبدأ المساواة؟ هل انجر نلسن مانديلا لدعوات المتطرفين الأفارقة بالتمييز ضد البيض أو إخراجهم من البلاد أو حرمانهم من المناصب أو الحقوق لأنهم كانوا راضين بالنظام العنصري الذي فضلهم على الآخرين، أم أنه أصر على إشراك البيض في الحكم بل وبنسبة لا تتلاءم مع حجمهم السكاني في البلاد؟ لقد تصورنا أن سكان جنوب أفريقيا البيض سوف يغادرون البلاد بعد تسلم السود السلطة، إلا أنهم بقوا هناك ولم يتزحزحوا بل قال لي أحدهم قبل فترة إن أوضاعهم المعاشية تحسنت أضعافا مضاعفة عما كانت عليه سابقا وإنهم لا يزالون يقودون البلاد اقتصاديا ويساهمون في تقدمها. وفي هذا أسوة لكل الذين يعتقدون أن تغير النظام في العراق سيقود إلى تهميش طائفة من الطوائف أو قومية من القوميات لأن ذلك لن يحصل إن نحن سرنا على مبدأ المواطنة ونبذنا التمييز الذي يتعارض كليا مع مبادئ العدالة والديمقراطية.
قبل عام تقريبا رفض السيد هاشم الشبلي منصب وزير حقوق الإنسان عندما عرض عليه وقد قال إنه رجل ديمقراطي ينتمي إلى حزب لا يؤمن بالمحاصصة ولا يمكن له أن يقبل بمنصب أسند إليه لمجرد أنه سني. زهد السيد الشبلي بمنصب وزاري، ليس لأنه لا يرغب في تولي المنصب أو لا يمتلك الكفاءة التي تؤهله له، بل لأن المبدأ الذي أسند المنصب على أساسه إليه كان خاطئا.هذا المبدأ الوطني الرافض للطائفية هو الذي يبني بلدا قويا متماسكا وليس التمسك بالحصص من أجل الحصول على المناصب.
قبل ستين عاما فقط رفض الزعيم الوطني الهندي المهاتما غاندي أن يصنف نفسه سوى أنه وطني هندي فقط وحاول أن يجمع طوائف البلاد المختلفة كلها على كلمة سواء وكان خطابه السياسي والفكري قريبا من المسلمين إذ كان يستشهد بأقوال الإمام الحسين وباقي أئمة المسلمين مما دفع متطرفين هندوسا إلى قتله والتخلص منه لتتجزأ الهند بعده إلى ثلاثة أجزاء حتى الآن والمطالبة لا تزال قائمة على أشدها بفصل كشمير عن الهند والباكستان لتكون الدولة الهندية الرابعة، ولم تخفت إلا حديثا مطالبة المتطرفين السيخ بإقامة دولة “خالستان” السيخية في إقليم البنجاب التي يرغبون أن تكون مدينة “أمريستار” المقدسة عند السيخ عاصمة لها. وليس خافيا المعارك الطاحنة والاضطرابات المستمرة داخل الهند نفسها وبينها وبين الباكستان وداخل الباكستان نفسها وبين الأخيرة وبنغلادش نتيجة إثارة العصبيات الدينية والعرقية والطبقية، وما خلفته وتخلفه من تخلف وفقر وجهل و تأخر للمجتمع في كل المجالات لا يزال شاخصا.
وفي البلدان الغربية نفسها لا تزال هناك دعوات عنصرية وطائفية لكنها دائما محاصرة ومحاربة من قبل المجتمع ومن المثقفين ومؤسسات الدولة لأن الجميع يدرك أنها هدامة ولا تساهم في تقدم المجتمع. وقد لاحظنا أن العالم الغربي الديمقراطي كله وقف ضد يورك هايدر، زعيم حزب الحرية النمساوي، عندما فاز في انتخابات النمسا قبل عدة سنوات، واضطر هايدر إلى الانسحاب من الحكومة متخليا عن “الاستحقاق الانتخابي”. وهذا ينبئنا أن الديمقراطية لا تأتي دائما بالأفضل بل بمن يستطيع أن يقنع الناس بأفكاره وبرنامجه الانتخابي. كما يجب أن نتذكر أن نتائج الديمقراطية المنفلتة قد تقود إلى كوارث سياسية واجتماعية واقتصادية ولا ننسى أن هتلر كان منتخبا من الشعب الألماني في انتخابات ديمقراطية، لكنه ألغى الديمقراطية فور وصوله إلى السلطة. الديمقراطية تحتاج إلى وعي وثقافة وإنسانية وقيم بالإضافة إلى ضمانات تمنع حصول تجاوزات عليها من قبل الأقوياء ودون ذلك تتحول إلى قبلية وعصبية قد تقود إلى كوارث وحروب وفوضى. الديمقراطية لا تعني الانتخابات فقط وأن من يفوز فيها له الحق في تسيير البلاد في الوجهة التي يريد، بل تعني الحفاظ على حقوق الأفراد والأقليات والضعفاء وضمان الحريات العامة والخاصة حتى وإن كانت لا تتفق مع أفكار الحزب الحاكم أو مع تفكير الأغلبية السياسية أو القومية أو الدينية.
لقد قادت الانتخابات في العراق إلى التشتت أو “التنوع” السياسي الحالي وهو بالتأكيد ليس ما كان يصبو إليه الديمقراطيون الحقيقيون فقد أوصلت الانتخابات أحزابا وشخصيات لا تؤمن بالديمقراطية أساسا بل ترى أن الظروف الحالية “بوجود الاحتلال” تجبرها على العمل ضمن النظام التعددي الحالي وإنها ستسعى عندما تسنح الظروف لتغيير المعادلة لصالحها. هناك شخصيات كانت ترفض أن تجلس مع أي شخص يؤمن بالديمقراطية وتعتبر ذلك مثلبة كبيرة وإثما عظيما، لكنها تبنت “الديمقراطية” لأنها شعرت أن بإمكانها أن تفيد منها مرحليا وقد استفادت فعلا على المستوى الحزبي والشخصي من ذلك. يسعدنا جدا أن يغير الناس أفكارهم نحو الأفضل بل إن هذا هو من صميم العمل السياسي وهو أن تقنع الناس بأن يغيروا آراءهم ويقتنعوا بأفكار وبرامج أخرى، ولكن يجب أن يكون التحول حقيقيا وليس صوريا.
لا احد يطالب أو يتوقع أن تكون الديمقراطية العراقية مكتملة من العام الأول، لكننا يجب أن نفكر جديا بكيفية حماية الديمقراطية على الأمد البعيد ممن يتلاعبون بها لاحتكار السلطة. إن التأسيس لنظام طائفي في العراق هو أمر خطير وله عواقب وخيمة. ليس خافيا أن هناك أشخاصا تمكنوا من اكتساب مواقع مهمة في الدولة العراقية لا لكفاءتهم أو استحقاقهم النضالي أو شجاعتهم أو تضحياتهم، بل لأنهم ينتمون لهذه الطائفة أو تلك أو لهذه المنطقة أو تلك. والأسوأ من ذلك أن هناك أشخاصا تولوا مناصب مهمة وهم لا يفقهون فيها شيئا ولم يسبق لهم أن عملوا في مجالها ولا حتى في الحقل السياسي أو الإداري مما يجعلهم عالة على البلد والديمقراطية وبالتالي على الشعب العراقي كله. كل مؤهلات هؤلاء أنهم دخلوا تحت عباءة هذا الحزب أو ذاك الزعيم أو ضمن تلك القائمة التي أوصلتهم إلى البرلمان. إنها الديمقراطية العليلة التي نخشى أن تصاب بالشلل لنعود إلى نظام دكتاتوري من نوع جديد. هناك الآن أحزاب وشخصيات سياسية فوق النقد ولا يستطيع أحد أن يمسها بنقد خشية التصفية الجسدية من قبل أنصارها. كيف يمكن للديمقراطية أن تعمل في ظل أطار سياسي مقيد بالخوف والقدسية؟ وهذا هو سبب مطالبة الكثيرين بفصل الدين عن السياسة لأن السياسة أمر يهم الناس جميعا ومن يتصدى لها يجب أن يتعرض للنقد والمساءلة، لذلك فإن تصدي أشخاص أضفوا على نفسهم قداسة الدين للأمور السياسية سيجعلهم في منأى عن النقد إذ أنهم سيحتمون بقدسية الدين أو أن النقد سيطالهم ويمتد ليطال الدين معهم وهنا تكمن الخطورة فالدين مقدس ويجب أن تبقى مبادئه ومثله العليا هدفا ساميا يسعى الجميع لبلوغها، ويجب أن يبقى علماؤه ورجاله مقدسين وفوق النقد كي يتمكنوا من الإبقاء على هيبتهم ويكونوا مثلا في الأخلاق والاستقامة لبقية الناس. وللحديث بقية
الصباح البغدادية- أيار 2006