الحياة، ٢٩ يوليو/تموز ٢٠١٧
على رغم أن رأي الكرد في إقامة دولة مستقلة معروف سلفاً، إلا أن الزعيم الكردي، مسعود بارزاني، قرر، من دون استشارة الحكومة الاتحادية أو الأحزاب الكردية في برلمان الإقليم، إجراء استفتاء على استقلال كردستان عن العراق في أيلول (سبتمبر) المقبل. نتائج الاستفتاء محسومة لمصلحة إقامة الدولة، لكن الهدف الحقيقي لهذا الاستفتاء على ما يبدو هو إيجاد حل للأزمة التي يعيشها بارزاني وحزبه «الديموقراطي الكردستاني» منذ عامين، والناتجة من تمسكه بمنصبه على رغم انتهاء ولايته، وتعطيله البرلمان الكردي ومنعه رئيسه، يوسف محمد، من دخول أربيل لممارسة مهام عمله.
لكن بارزاني بقراره هذا، يضع الشعب الكردي وقياداته السياسية أمام مسؤولية قومية لاتخاذ قرار تاريخي كان قد تردد طويلاً في اتخاذه. فهل حان الوقت لإعلان الدولة التي ينشدها الكرد منذ قرن من الزمن؟ وهل تملك هذه الدولة حلولاً سحرية لمشاكلهم السياسية والاقتصادية؟ ليس هناك من لديه أجوبة مؤكدة، لكن المؤكد هو أن الشعب الكردي راغب في إقامة الدولة وأنه قادر على إقامتها لأن غالبية مقوماتها متوافرة، من سكان وأرض وهوية مميزة، لكن الذي ينقصها هو التأييد الإقليمي والدولي إضافة إلى شُح الموارد والافتقار لمنفذ بحري.
الفرصة التاريخية لإعلان الدولة الكردية كانت متوافرة في التسعينات، إذ كانت الظروف حينذاك مواتية بوجود نظام صدام حسين المرفوض دولياً وعراقياً وعربياً، ووجود اعتراف دولي بأن الكرد مهددون بالإبادة لذلك شرّعت الأمم المتحدة إقامة منطقة آمنة لهم في المحافظات الكردية الثلاث، أربيل والسليمانية ودهوك. لكن القادة الكرد لم يستثمروا ذلك الظرف لأسباب كثيرة منها خلافاتهم الداخلية العميقة التي تطورت الى اقتتال عام 1996، ما دفع برزاني للاستعانة بصدام حسين لحماية نفسه من قوات جلال طالباني التي تدعمها إيران، ولولا تدخل الجيش العراقي لحماية بارزاني لكانت موازين القوى في كردستان مختلفة تماماً.
سيقدم الاستفتاء حبل نجاة لبارزاني للخروج من الأزمة التي صنعها بنفسه عبر انتهاكه القانون واستهانته بالرأي العام الكردي والدولي. لكنه مع ذلك لديه نقاط قوة، منها سيطرته لأول مرة على محافظة كركوك الغنية بالنفط، والتي يعتبرها الكرد جزءاً من دولتهم المقبلة على رغم أنها ليست جزءاً من الإقليم.
لقد طالب الأكراد بالاستقلال منذ انتهاء الحرب العالمية الأولى وكان الزعيمان محمود الحفيد وأحمد بارزاني قد أسسا حركتين مسلحتين حتى قبل تأسيس الدولة العراقية عام 1921، وقادا تمرداً مسلحاً عام 1927 بهدف الحصول على الاستقلال. وقبيل انضمام العراق إلى عصبة الأمم عام 1932، طالب الحفيد بأن تكون كردستان محمية بريطانية منفصلة. لكن الثورة الكردية أخفقت عسكرياً، إذ قمعها البريطانيون بالاستعانة بسلاح الجو، ونُفِيَ الحفيد إلى الجنوب، لكن طموح الكرد بإقامة الدولة ظل مستعراً، لكنهم استبدلوا الاستقلال بـ «الحكم الذاتي».
لم تستجب الحكومات العراقية المتعاقبة لمطالب الكرد المشروعة بإقامة حكم ذاتي حقيقي، وكل الحلول كانت ترقيعية، ما أدى إلى تزايد المعارضة المسلحة واستغلال الدول الأخرى المشكلة الكردية للتدخل في الشؤون العراقية.
إيران، التي تعارض اليوم استقلال كردستان، كانت بالأمس القريب الداعم الأول للحركة الكردية المسلحة بقيادة ملا مصطفى بارزاني، والتي استنزفت العراق مالياً وعســـكرياً وبشــــرياً واضطرته لتوقيع اتفاقية الجزائر مع إيران التي تنازل فيها عن سيادته على شط العرب والقبول بخط الثالوغ كحد رسمي مع إيران، مقابل توقف إيران عن دعم الثورة الكردية. ولم تتمكّن بغداد من بسط سيطرتها على كردستان إلا بعد الاتفاق مع إيران التي سمحت للمسلحين الكرد، حوالى 150 ألفاً، بدخول أراضيها.
لكن تلك السيطرة المفروضة بالقوة العسكرية لم تدم طويلاً، إذ تمكن الكرد من إعادة تنظيم صفوفهم واستثمار الفرص المتاحة لهم دولياً، بما في ذلك التعاون مع إسرائيل، من أجل تحقيق مطالبهم القومية، خصوصاً أن حكومة بغداد آنذاك مارست سياسة التعريب والتهجير والقمع على نطاق واسع ما أثار استياء الكرد جميعاً، حتى المعتدلين منهم. وبعد هزيمة العراق العسكرية عام 1991، أقامت الأمم المتحدة «المنطقة الآمنة» شمالي العراق لحماية الكرد من انتقام النظام.
ومنذ ذلك الوقت، تمتع الكرد بما يشبه الاستقلال التام في إدارة شؤونهم ما زاد في توجههم الانفصالي عن العراق وتعميق إيمانهم بأن الحل الوحيد الذي ينقذهم من الاضطهاد القومي هو إقامة الدولة الكردية. وقد عمل القادة الكرد خلال ربع القرن الماضي على تعميق الهوة بين مواطنيهم وباقي مكونات الشعب العراقي خصوصاً العرب، فغيروا المناهج ووضعوا فيها ما يعزز تميزهم القومي وألغوا التدريس باللغة العربية فنشأ جيل جديد لا يشعر بأي انتماء للعراق ولا يعرف حتى اللغة العربية التي كان معظم الأكراد يجيدونها.
ردود الفعل العراقية العربية حول الاستفتاء كانت معارضة، لكن بعضها كان غاضباً وغير مسؤول. رئيس منظمة بدر، هادي العامري، قال إن انفصال الكرد يعني «أننا سنختلف وسوف نقتتل حتى داخل الغرفة الواحدة»! لا بأس في الاختلاف ولكن لماذا الاقتتال؟ الخلاف يحل عبر الحوار والتفاوض وليس الاقتتال. إنه تهديد مبطن لا يخدم العراق ولا العلاقات العربية الكردية. رئيس الوزراء ذكّر الكرد بجمهورية مهاباد التي «فشلت وأخرت القضية الكردية عشرات السنين». هذا الرأي يتجاهل سبعين عاماً من التطورات منذ انهيار جمهورية مهاباد وأن الأخيرة قامت بحماية السوفيات ولم تأتِ بإرادة شعبية.
الكرد حققوا مكاسب كبيرة خلال نصف قرن وأصبحوا الآن قوة سياسية وديبلوماسية وعسكرية لا يستهان بها، ويجب أن ينصت العرب لمطالبهم ويتعاملوا معها بواقعية ولا يتمسكوا بمواقف بالية. الكرد لن يعودوا إلى الوراء وهم مصممون على إقامة دولتهم شمالي العراق، وهذه الحقيقة يجب أن يتعامل معها العراقيون بجدية ويتفاوضوا معهم حول حدودها، ويكون العراق أول من يعترف بها ويقيم معها علاقات اقتصادية وسياسية قوية كي لا تلجأ إلى دول أخرى لحماية نفسها على حساب العراق.
المهم بالنسبة للعراق هو أن يضمن أن تكون دولة كردستان المقبلة ديموقراطية تمثل الكرد جميعاً ولا تمييز بين مواطنيها، وليست دولة يهيمن عليها نظام ديكتاتوري قبلي يزدهر على حساب قمع الشعب الكردي وتغييب إرادته وسلب ثرواته.
حميد الكفائي
http://www.alhayat.com/Opinion/Hamid-Al-Kafaee/23138914/%D9%87%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%B3%D8%AA%D9%81%D8%AA%D8%A7%D8%A1-%D9%84%D9%84%D8%A7%D8%B3%D8%AA%D9%82%D9%84%D8%A7%D9%84-%D8%A3%D9%85-%D9%84%D8%A5%D9%86%D9%82%D8%A7%D8%B0-%D8%A8%D8%A7%D8%B1%D8%B2%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%9F