تنامي الرفض الشعبي العراقي لإيران
الحياة، ٣ سبتمبر/ أيلول ٢٠١٧
لا يخفي الإيرانيون تدخلهم في الشأن العراقي مطلقاً، فزعيم فيلق القدس الإيراني، قاسم سليماني، يحضر اجتماعات «التحالف الوطني» الحاكم ويناقش شؤون العراق مع السياسيين العراقيين، وهو دائم الحضور في العراق باعتباره «مستشاراً» للحكومة العراقية كما صرح بذلك أحد المسؤولين. ومن طرائفه الأخيرة إعلانه أن «لا فرق في المصالح بين العراق وإيران»، نافياً أن تكون لإيران أطماع في الموصل وكركوك ونفطها.
السفير الإيراني في العراق «يتوسط» لحل الخصومات والخلافات بين القادة العراقيين. نائب الرئيس الإيراني، محمد رضا رحيمي، دعا العراق عام 2012 إلى الوحدة مع إيران! مستشار الرئيس الإيراني، علي يونسي، أعلن أن العراق أصبح عاصمة للإمبراطورية الإيرانية الجديدة.
قادة العراق أيضا يترددون على إيران «للتشاور»، بل إن أحدهم، عمار الحكيم، استأذن علي خامنئي (ولي أمر المسلمين كما يسميه في مخاطباته الرسمية) بترك حزب «المجلس الأعلـــى» الذي ورثه عن أبيـــه لتشكيل حزب جديد، حسب عضوي قيادة الحزب، جلال الصغير وباقر صولاغ! لماذا يطلب «سياسي عراقي» الإذن مــــن إيران في شـــأن عراقي إن لم يكن في الأساس تابعاً لها؟
شيوخ «المجلس» المعترضون على زعيمهم الشاب، ذهبوا إلى إيران ليشرحوا موقفهم للقيادة الإيرانية راجينها منعه من الانفصال عنهم. لكن إيران وافقت، فأسس الحكيم حزباً لا ينافسه على قيادته منافس.
رئيس الوزراء السابق، نوري المالكي، أصبح حليفاً لإيران بعدما كان منتقداً لها زمن المعارضة، ثم أصبح حليفاً لأميركا عند توليه السلطة عام 2006، إذ وصفه الرئيس بوش حينذاك بأنه «الرجل المناسب للعراق». لكن إيران «كسبت وده» لاحقاً و «أقنعت» القوى الشيعية الرافضة له بتأييد ولايته الثانية عام 2010، على رغم أن قائمته «دولة القانون» جاءت في المرتبة الثانية بعد قائمة «العراقية» بقيادة أياد علاوي. الجميع رضخوا، بمن فيهم الأميركيون، لإرادة إيران، فشكل المالكي حكومته الثانية (45 وزيراً) الأكبر في التاريخ.
انسجمت سياسة المالكي في ولايته الثانية كلياً مع السياسة الإيرانية، وابتعدت من واشنطن، مقتربة من روسيا والصين، إذ أبرمت عقوداً لشراء السلاح من روسيا بمليارات الدولارات. كما ابتعد المالكي من العالم العربي واستفز السنة والأكراد ومعظم السياسيين بسياساته الخلافية. وفي عهده ثار السنة في محافظات عدة لتسقط لاحقاً بأيدي التنظيمات الإرهابية. ومع هذا الوضع المتأزم، أدركت قيادة حزب الدعوة، الحزب الوحيد بين القوى الإسلامية العراقية الذي بقي مستقلاً في قراره عن السياسة الإيرانية أثناء المعارضة، أن بقاء المالكي سيفاقم التوتر السياسي والطائفي، فقررت بالإجماع إبعاده من رئاسة الوزراء مستعينة بالمرجع السيستاني الذي نصح بتغييره. ولولا تدخل السيستاني لما تمكنت أي قوة سياسية من إزاحته لأنه تمترس في السلطة على طريقة صدّام، مستبدلاً أعضاء حزبه بأفراد عائلته المباشرة وأتباعه الموالين.
تجاوزت إيرادات العراق من النفط فقط مئة بليون دولار سنوياً في عهد المالكي، لكن هذه الأموال الطائلة لم تحسِّن أداء الكهرباء التي بقيت تنقطع 12 ساعة يومياً، ولم تقلِّص البطالة والتشرد، فظل ملايين العراقيين عاطلين ولا يجدون مأوى لائقاً، ولم تحسِّن أداء الخدمات، فاضطر المرضى للذهاب إلى لبنان والأردن وإيران والهند وتركيا للعلاج، وظل التلاميذ يدرسون على ثلاث وجبات يومياً في المبنى الواحد، وبواقع أربعين تلميذاً في الصف الواحد، لقلة المدارس والمعلمين، بينما عانت المدن الإهمال وتراكم النفايات والفيضانات أثناء الشتاء بسبب انسداد قنوات تصريف المياه، والذي عزاه أمين بغداد، نعيم عبعوب، إلى «صخرة عملاقة وضعت عن قصد في قناة التصريف الرئيسية» نتيجة لمؤامرة دبرت بليل!
الأمن تدهور إلى حدود خطيرة فأصبحت الانفجارات وأعمال الخطف والقتل أموراً مألوفة، وتمكَّن الإرهابيون من بلوغ أي هدف يشاؤون، بما في ذلك البرلمان والوزارات المحصنة. ولغياب الانضباط وانتشار الفساد وتعدد الولاءات ونقص التدريب، عجز الجيش عن صد الأخطار الإرهابية، وفوجئ العراقيون بانهياره المريع في الموصل، ما اضطر الحكومة إلى الاعتماد على الميليشيات بدل الجيش والشرطة.
وكنتيجة مباشرة لفشل حكومة المالكي في حفظ الأمن، تأسست عشرات الميليشيات المرتبطة بالأحزاب، إذ استُغِلَّت فتوى «الجهاد» بمحاربة «داعش» لتشيكل ميليشيات تستعين بها الجماعات السياسية على خصومها وتحمي مغانمها. ومعظم هذه الميليشيات إما مرتبط مباشرة بإيران أو تابع لجماعات وشخصيات مدعومة إيرانياً، وهذه ليست ظنوناً أو تحليلات وإنما معلومات يجود بها قادة الميليشيات أنفسهم. وترسيخاً للتبعية الإيرانية، يحرص هؤلاء على رفع صور خامنئي في المكاتب والشوارع والمركبات، إضافة إلى صفحاتهم الرسمية في وسائل التواصل الاجتماعي. وباستثناء «سرايا السلام» التابعة للتيار الصدري، فالميليشيات الشيعية مرتبطة بإيران بدرجات متفاوتة. كما أصبحت إيران وجهة للهاربين، من القتلة والخاطفين والسرّاق والفاسدين، وآخر هؤلاء محافظ البصرة، ماجد النصراوي، التابع لكتلة الحكيم.
وبسبب تدهور الأمن وتردي الخدمات وتهالك البنى الأساسية للدولة من شوارع وجسور ومبان ومستشفيات ومدارس، وانتشار الفساد والبطالة والحرمان، اشتد الاستياء الشعبي من الجماعات المهيمنة على السلطة، وامتد ليشمل إيران باعتبارها الدولة التي مكّنت هذه الجماعات من السيطرة على الدولة والمجتمع. فإن كانت إيران ترغب حقاً في علاقات مثمرة وطويلة الأمد مع العراق، وهذا مهم جداً لمنع تحوله إلى بلد معادٍ لها، يجب أن تتوقف عن دعم الجماعات المسلحة، وبدل ذلك أن تدعم الدولة ومؤسساتها الدستورية. الأوضاع الحالية غير قابلة للاستمرار، فالفوضى التي خلقتها الميليشيات ستعود بالضرر على الدولة والمجتمع، ومن يعتدي على المدنيين سيضطرهم إلى حمل السلاح للدفاع عن أنفسهم.
الجماعات السياسية المسؤولة عن هذا التدهور تحاول التهرب من مسؤوليتها عبر تغيير أسمائها واستخدام تعابير محايدة مثل «الوطني» و «المدني» و «الدستوري» و «الديموقراطي»، بينما يبقى المتسببون في الخراب في الصدارة. تغيير الأسماء ومفردات الخطاب السياسي ليس حلاً، فمن اعتاد على الخداع والسرقة والقتل والعمل في الظلام لن يتحول فجأة إلى مصلح أو مخلّص. الإصلاح يتطلب الشفافية والموضوعية والإخلاص، وقادة لم يتلوثوا بفساد أو جرائم. هؤلاء فقط قادرون على انتشال العراق من الفشل والسير به إلى دولة مدنية تلبي طموح شعب يتوق منذ عقود للعيش بأمن ورخاء.
http://www.alhayat.com/Opinion/Hamid-Al-Kafaee/23819088/تنامي-الرفض-الشعبي-العراقي-لإيران