الموسوعي الأخير الجامع بين الأصالة والعصرنة
الكتابة عن الراحل السيد محمد بحر العلوم ليست بالأمر اليسير لأن الرجل كان آخر الشخصيات الموسوعية العراقية التي جمعت بين علوم الدين والأدب والتأريخ والسياسة والوجاهة الاجتماعية. وبالإضافة إلى كل ذلك فقد كان الراحل ملمّا بأمور أخرى كثيرة خصوصا نباهته الاجتماعية وشخصيته المحببة وتواضعه الجم وسعيه للتقرب من الناس جميعا بشتى السبل، خصوصا المبادرة بالسلام والحديث والسؤال.
وبالنظر لانشغالنا بهموم العراق فسوف أتحدث عما رأيته بعيني ولمسته بنفسي عن الراحل من مواقف وأحاديث وأفكار خلال فترة التغيير وما بعدها، لأن الحديث عن فترة ٣٠ عاما لا يمكن إيجازه في سطور بل يحتاج إلى كتاب. عندما اتضح أن الولايات المتحدة قررت تغيير النظام بالقوة، أعرب السيد بحر العلوم عن شكوكه بجدوى هذا المسعى وتساءل ماذا يعني هذا بالنسبة لنا نحن العراقيين وهل أن هذا من أجلنا أم من أجل أهداف أخرى؟ إن كان من أجلنا فيجب أن يكون لنا رأي به. وأتذكر أن السيد كتب مقالا في جريدة “الحياة” حول هذا الموضوع وألقى محاضرات في عدد من المراكز العراقية في لندن حيث كان يقيم وقد حضرت إحداها.
لكن الولايات المتحدة كانت عازمة على إجراء التغيير ولا أدري إن كان السيد بحر العلوم قد حصل على تطمينات على تساؤلاته من الأمريكيين أو أصدقائهم والمتعاملين معهم، ولكنني أتذكر أننا كنا نجتمع في بيته بحضور المرحوم الدكتور أحمد الجلبي وباقي قادة المعارضة لنناقش هذه الأمور وكان السيد يتواصل مع ذوي الشأن عبر الهاتف بوجودنا ويسألنا واحدا واحدا عن آرائنا بما يجري وكيف سيؤثر ذلك على العراق.
وفي التاسع من نيسان ٢٠٠٣ سقط النظام وفرحنا نحن المعارضين فرحا شديدا بهذا الحدث على رغم أننا كنا نتمنى لو أنه حصل على أيدينا. استعد كل منا للعودة إلى العراق، سالكا الطريق الذي يلائمه. شخصيا قررت العودة عبر الكويت وانخرطت في مشروع الإعلام العراقي الذي كنت أحد رواده منذ عدة أشهر قبل التغيير. كنت قد حجزت للذهاب إلى الكويت، وحصلت على تأشيرة دخول تجارية، لأغادر من هناك إلى العراق. وهذا ما حصل فعلا، إذ غادرت لندن يوم ١٣ نيسان ودخلت العراق في اليوم التالي.
وقبيل مغادرتي بأيام قليلة، اتصل بي الدكتور إبراهيم بحر العلوم ونقل لي رغبة السيد الوالد بأن أرافقه إلى العراق. كانت فرحتي غامرة أن يختارني السيد بحر العلوم أن أغادر معه إلى جانب أولاده والمقربين منه، لكنني كنت قد خططت للعودة قبل اتصاله. اعتذرت للدكتور إبراهيم وأخبرته بأننا سنلتقي في بغداد. وفعلا غادرت إلى الكويت وشاركت في تأسيس شبكة الإعلام العراقي وبدأنا البث عبر مرسلات من أم قصر واتخذنا من مبنى في السالمية مقرا لعملنا. وفي تلك الأثناء وصل السيد بحر العلوم إلى الكويت أيضا وقد استُقبِل استقبالا رسميا وشعبيا إذ كانت له علاقات وطيدة بهذا البلد الجار الذي كان قد عمل فيه قاضيا في فترة سابقة. زرت السيد بحر العلوم في محل إقامته في فندق الإنتركونتيننتال ودعوته إلى مبنى الإذاعة في اليوم التالي من أجل أن أجري معه مقابلة إذاعية. وفعلا جاء السيد وأجريت المقابلة.
بعدها غادر السيد بحر العلوم الكويت إلى العراق وشارك هناك في المفاوضات التي كانت المعارضة العراقية السابقة تجريها مع الحاكم المدني الأمريكي بول بريمر لتسليم السلطة إلى العراقيين والتي قادت إلى الاتفاق على تأسيس مجلس الحكم.
أُسس مجلس الحكم وأُعلن عنه في الثالث عشر من تموز ٢٠٠٣ وانتُخِب السيد بحر العلوم رئيسا له. لم يكن انتخابه بسبب كبر سنه كما تصور البعض لأنه لم يكن الأكبر بين الأعضاء فالدكتور عدنان الباجه جي أسنُّ منه، لكنه جاء لمكانة السيد بحر العلوم العالية بين القادة السياسيين العراقيين والاحترام والمقبولية الكبيرين اللذين كان يتمتع بهما. وبعد ثلاثة أشهر من تأسيس مجلس الحكم، اختارني المجلس ناطقا رسميا باسمه.
لاحظت أداء السيد بحر العلوم أثناء مناقشات المجلس للقوانين والقرارات وكان ينطلق من مصلحة وطنية عراقية، وأشهد، وأنا الذي عرفته لعقدين من الزمن قبل تأسيس مجلس الحكم، أنني فوجئت بأدائه الرائع ووطنيته العالية. كانت مصلحة العراقيين بمختلف تلاوينهم السياسية والدينية والقومية نصب عينيه في كل مناقشاته. كان مدافعا عن السنّة والأكراد والتركمان والمسيحيين والصابئة والأيزديين والشبك، العلمانيين والإسلاميين والقوميين. كان يصر عند تشكيل الوفود الذاهبة إلى الخارج على أن يكون الوفد ممثلا لكل العراقيين. وفي آذار من عام ٢٠٠٤، ترأس السيد بحر العلوم مجلس الحكم للمرة الثانية، وقد تلقى دعوات رسمية من عدد من الدول لزيارتها لكنها لبى دعوة الحكومتين الصينية واليابانية أثناء رئاسته، وعكف على تشكيل الوفد العراقي وقد كنت معه أثناء عملية تشكيل الوفد. لقد أصر السيد بحر العلوم على أن يُمَثّل في الوفد السنّة والأكراد بمستويات عليا.
أتذكر أنني طرحت عليه فكرة وهي أن علينا ألا نعير اهتماما للاختلافات المذهبية والقومية سواء في المناصب الحكومية أو المهام المناطة بالأشخاص لأننا إن راعينا هذه الاختلافات الآن فإنها سوف تبقى معنا وتترسخ مستقبلا، فقال نحن في مرحلة التأسيس ويجب ألا نفعل شيئا يُساء فهمُه. لا يمكن أن يُقبل أي تفسير لغياب السنة أو الأكراد عن الوفد العراقي الذاهب إلى الصين واليابان. يجب أن نقدم صورة وطنية جامعة للشعب العراقي أولا وللعالم ثانيا. نحن نريد عراقا موحدا ويجب أن تنعكس الوحدة في كل شيء. كما أخبره الأمين العام لمجلس الحكم الأستاذ محي الخطيب بأن الوفد قد أصبح كبيرا ومن الضروري تقليصه، لكن السيد بحر العلوم أصر على تمثيل جميع العراقيين في الوفد، وكان يردد “إنها مرحلة التأسيس ويجب أن يشارك فيها الجميع”. وقد اختار من أعضاء مجلس الحكم كل من نصير الجادرجي وروز نوري شاويس وأحمد البراك وحميد مجيد موسى، ومن الوزراء الدكتور لطيف رشيد وزير الموارد المائية ومحمد رحيم وزير الصناعة وسامي عزارة المعجون وزير العمل والشؤون الإجتماعية.
وبينما كنا نتهيأ للقاء رئيس الوزراء الياباني، كيوزومي، تأخر العضو الكردي في الوفد، الدكتور روز نوري شاويس، عن الالتحاق بالوفد وقيل إنه كان مستاء لسبب لم أعد اتذكره. فقال السيد بحر العلوم إنه سيلغي اللقاء مع كيوزومي إن لم يحضر السيد شاويس، فاعترض باقي أعضاء الوفد على هذا الرأي قائلين إن إلغاء اللقاء الرسمي مع رئيس الوزراء ونحن في اليابان سيعطي انطباعا خاطئا لليابانيين، لكنه أصر على حضور شاويس وطلب منهم إقناعه بالمجيء، ولم نتحرك من الفندق حتى وافق الدكتور شاويس على الانضمام إلينا. كان السيد بحر العلوم حريصا كل الحرص على إرضاء الجميع وهذه مهمة صعبة دون شك لكنه مع ذلك نجح فيها. في الصين، طلب السيد بحر العلوم من السفير العراقي في بكين أن ينظم للوفد لقاء مع السفراء العرب المعتمدين في الصين. وعندما اجتمعنا بهم، قال لهم إنكم أهلنا وأقرب الناس إلينا ونتمنى منكم أن تقفوا معنا في مسعانا لتأسيس دولة جديدة منصفة لكل أبنائها ونتمنى منكم أن تتفهموا وضعنا الحالي الذي أوصلنا إليه النظام السابق. وشدد على أن العراق هو جزء من العالم العربي وأن على الدول العربية أن تسعى لأن تكون في مقدمة من يساعد العراق على النهوض من جديد.
وقد شعر السفراء العرب بارتياح كبير لما سمعوه من السيد بحر العلوم. بعدها طلب مني السيد بحر العلوم أن أتحدث. فتحدثت بشيء من العتاب على أخواننا العرب الذين لم يقفوا معنا أثناء حكم صدام حسين وتخلفوا عن نصرتنا بعد سقوط النظام وأشرت تحديدا إلى وسائل الإعلام العربية الرسمية التي كانت في أحسن الأحوال متفرجة أو مشككة بمواقفنا أو عدائية بشكل واضح. كنت صريحا في كلامي معهم باعتبار أنهم أخوة وأنهم لم يسمعوا رأينا الصريح بمواقفهم وأن اللقاء لم يكن متاحا لوسائل الإعلام. لكن السيد بحر العلوم كان يريد أن يتحدث عن المستقبل بمعزل عن الماضي والحاضر فأشار إلي بأننا نحتاج لأن نشرح لأخواننا مواقفنا ونترك لهم الخيار. اختتمت حديثي بالقول إن الصراحة ضرورية لبناء علاقة بناءة، وإننا مستعدون لنسيان الماضي وفتح صفحة جديدة مبنية على التفاهم والمصالح المشتركة واحترام الاختلاف في المواقف والتوجهات.
وبعد انتهاء زيارة الوفد إلى الصين واليابان عدنا إلى الكويت وكنا نتأهب للذهاب إلى تونس لحضور مؤتمر القمة العربية المقرر عقده هناك. وقد عقد الوفد عددا من الاجتماعات برئاسة السيد بحر العلوم من أجل توحيد الرؤى حول موقف العراق من القضايا المطروحة على جدول أعمال القمة. وشدد السيد بحر العلوم على التقارب مع الدول العربية وكان دائما يردد إنه عربي الهوى. وقبيل المغادرة إلى تونس أُعلن عن تأجيل انعقاد المؤتمر فعاد الوفد إلى بغداد.
أثناء مناقشة قانون إدارة الدولة، كان السيد بحر العلوم منتبها لما يمكن أن تعنيه أي مادة من مواده وقد أصر على بحث كل فقرة باستفاضة، وفي إحدى المرات التي كان المجلس يناقش فيها مواد القانون في وقت متأخر من الليل، وكان الحاكم المدني الأمريكي، بول بريمر، حاضرا، انتفض السيد بحر العلوم وغادر القاعة محتجا إذ شعر بتصلب موقف بريمر وعدم جدوى الاستمرار في التفاوض، ولم يعد إلى طاولة المباحثات إلا بعد أن تبعه الحاكم المدني الأمريكي مطالبا إياه بالعودة. وعندما تعرض الدكتور أحمد الجلبي إلى مضايقات من الأمريكيين في شهر نيسان من عام ٢٠٠٤، القى السيد بحر العلوم كلمة محتجا على تلك الإجراءات واختتم كلمته بتقديم استقالته من المجلس وقد تبعه الدكتور الجلبي في الحديث عن المضايقات معلنا تقديم استقالته أيضا من المجلس، ولم يعودا إلى المجلس إلا بعد أن رُفِعَت تلك المضايقات عن الدكتور الجلبي.
كان السيد بحر العلوم وطنيا في كل تصرفاته وتوجهاته وخطاباته وكان فوق الاختلافات الطائفية والعرقية. وطوال ثلاثين عاما عرفته فيها، لم اسمعه يوما يتحدث عن الاختلافات المذهبية بين السنة والشيعة، بل كان يتحدث عن الجوانب الإنسانية في الإسلام ولا تشعر عند الاستماع إليه بأنه ينتمي إلى مذهب معين رغم أنه دائم الإشادة بفضائل أهل البيت لكنه لا يختلف في هذا الأمر عن عباس محمود العقاد أو محمد عبده. لم يكن يفرق بين العراقيين على أساس الدين أو المذهب أو العرق، بل أصر على المساواة بينهم وكان دائما يدافع عن الجانب الآخر وقلما سمعته يدافع عن طائفته أو مجموعته السياسية. وعلى رغم إسلاميته وتدينه وانتمائه إلى الحوزة الدينية، وهو انتماء يعتز به، إلا أنه حافظ على حقوق الجميع واحترم حق من اختلف معه وكان قريبا جدا من العلمانيين والقوميين كقربه إلى الإسلاميين، وهذا أمر لا يتحقق لكثيرين.
السيد بحر العلوم شخصية فريدة من نوعها. كان أنيس المجالسة وممتع الصحبة، يصغي لمجالسيه ومرافقيه ويحترِم آراءهم ويتفهم اختلافاتهم. لقد جمع بين الأصالة والعصرنة، فكان عصريا في تسامحه واحترامه للرأي الآخر، وأصيلا في أخلاقه وتعاملاته. كان شخصية تضافرت العديد من الأحداث والظروف على صنعها، من نشأته العائلية ودراسته الحوزوية في النجف ثم دراسته الأكاديمية في مصر إلى عمله كقاض في الكويت وتنقلاته في بلدان العالم المختلفة حاملا قضية الشعب العراقي التي دافع عنها بقوة وحكمة فكسب ود الأصدقاء واحترام الخصوم في آن.
حميد الكفائي