الصباح 13-05-2006
شاع مصطلح المحاصصة في العراق بعد سقوط النظام في التاسع من نيسان من عام 2003، إلا أنه كان معمولا به بشكل غير علني في مؤتمرات ونشاطات المعارضة العراقية منذ غزو الكويت في الثاني من آب 1990 عندما اتسعت رقعة المعارضة لتشمل كل شرائح المجتمع العراقي. وأتذكر أن مذهب وقومية الشخص تأخذ بنظر الاعتبار لتقييم أي عمل معارض. وقد سعى السياسيون الشيعة والأكراد، خصوصا العلمانيون منهم، إلى “تطعيم” مؤتمراتهم بشخصيات معارضة من طوائف وقوميات أخرى، وقد اضطروا في بعض الأحيان إلى جلب شخصيات غير سياسية تفتقر إلى الخبرة أو التاريخ السياسيين من أجل إضفاء صفة وطنية عامة على النشاطات المعارضة وإبعاد أية صفة طائفية أو مناطقية عليها، وهذا أمر مفهوم جدا وله تبريراته. وفي أحد المؤتمرات المهمة، وهو مؤتمر الضباط الأحرار الذي عقد في تموز عام 2002، جيء بشخصية طاعنة في السن لا علاقة لها بالسياسة للغرض نفسه وهو أن يكون هناك ضابط سني كبير بين الضباط المعارضين حتى لا يكون هناك مجال لأحد ليتهم النشاطات المعارضة بالطائفية. وفي مؤتمر لندن للمعارضة العراقية اعتمد أيضا المبدأ نفسه في تشكيل لجنة التنسيق والمتابعة وكانت تلك في رأيي محاصصة طائفية ولكن غير معلنة. لقد بدأ العمل بمبدأ المحاصصة القومية والطائفية علنا في مجلس الحكم الذي أعلن في الثالث عشر من تموز 2003 الذي ضم في عضويته 13 عضوا شيعيا (بينهم العلمانيون د. أحمد الجلبي، زعيم المؤتمر الوطني، و د. إياد علاوي زعيم حركة الوفاق الوطني، والأستاذ حميد مجيد موسى، زعيم الحزب الشيوعي العراقي، والمحامي أحمد البراك، مستقل، و د. رجاء الخزاعي، مستقلة، والقاضي وائل عبد اللطيف، مستقل، و د. عقيلة الهاشمي، دبلوماسية في النظام السابق) وخمسة أعضاء أكراد وخمسة من السنة العرب (بينهم زعيم الحزب الإسلامي العراقي د. محسن عبد الحميد وهو كردي من كركوك) وعضوان آخران، احدهما للمسيحيين وآخر للتركمان. وقد أُعتمد مبدأ المحاصصة في حكومة مجلس الحكم أيضا إذ جاء عدد الوزراء الشيعة والسنة والأكراد مطابقا لنسبتهم في مجلس الحكم، على الرغم من أن د. عدنان الباجه جي و د. أحمد الجلبي والأستاذ نصير الجادرجي قد حاولوا مخالفة هذا المبدأ بتعيين وزراء من طائفة غير طائفتهم، إلا أن نسبة السنة والشيعة والأكراد والمسيحيين والتركمان بين الوزراء بقيت كما هي ولم تتغير. ولقد التزم الأعضاء جميعا على ما أتذكر بتعيين نواب لهم من طوائفهم نفسها باستثناء الأستاذ نصير الجادرجي الذي عين شيعيا نائبا له، وصون كول جابوك التي عينت (لاحقا) عربيا نائبا لها. لقد تعرضت هذه التجربة للانتقاد في العلن من أطراف كثيرة إلا أنه حتى الأطراف المنتقدة لهذه السياسة تمسكت بالحصص الطائفية أو القومية أو المناطقية المخصصة لها بل طالبت بزيادتها لأنها في نظرها “دون الحجم الحقيقي” لهذه الطائفة أو القومية أو المنطقة. أتذكر أن مقترحا قدمه الدكتور إبراهيم الجعفري لترقية السيد محي الخطيب، الأمين العام لمجلس الحكم، إلى درجة وزير قد قوبل بالرفض من بعض الأعضاء لمجرد أنه شيعي وأن “الشيعة قد استوفوا حصتهم من الوزراء”! رغم أن السيد محي الخطيب رجل علماني لا يهتم كثيرا للمذهب والطائفة وهو متزوج من سيدة سنية. لم يكن في تلك الفترة أي نظام للتمثيل العادل لشرائح المجتمع العراقي خصوصا في غياب الانتخابات. لذلك فقد كانت المحاصصة مقبولة لضمان التمثيل العادل لكل الأطراف وكل من انتقد المحاصصة في تلك الفترة لم يكن جديا أو واقعيا بل منطلقا من عدم صحة النظرية أساسا وضرورة التخلي عنها في أقرب فرصة. وها نحن الآن قد انتقلنا من الفترة المؤقتة حيث غياب الدستور الدائم والآلية الانتخابية إلى الوضع الدائم حيث الدستور الدائم والقوانين التفصيلية والتمثيل الانتخابي (رغم العيوب الكثيرة التي رافقت العملية الانتخابية)، ومن غير الملائم بعد كل هذا أن تستمر المحاصصة الطائفية لأنها في الحقيقة تلغي العدالة الديمقراطية ومبدأ الشخص المناسب في المكان المناسب. فما الضير أن يكون هناك عشرة وزراء سنة وخمسة مسيحيين وعشرة شيعة وسبعة أكراد وخمسة تركمان إن كان الجميع سيطبقون القانون الذي أقره ممثلو الشعب العراقي؟ بل ما الضير أن يتضاعف عدد الشيعة أو السنة أو الأكراد أو يتناقص إلى النصف إن كانوا جميعا سيخدمون الشعب العراقي بكل طوائفه وأعراقه ودون تمييز، ويلتزمون بنفس القانون ويراقبون من قبل البرلمان والصحافة ومؤسسات المجتمع المدني والشعب العراقي بشكل عام؟ إن مبدأ تقاسم السلطة يجب أن يكون بين الأحزاب والحركات السياسية وليس بين الطوائف والقوميات، إلا أن الانقسام السياسي على أسس طائفية وقومية في العراق هو الذي جعل التقاسم السياسي تقاسما طائفيا وعرقيا في الوقت نفسه. لذلك فإن هناك حاجة لمراعاة الجانب السياسي في التشكيلة الحكومية على حساب الجانب الطائفي أو القومي. السلطة ليست غنيمة حتى تتقاسم حسب حصص ونسب وإنما هي مسؤولية وتكليف شعبي لإدارة الدولة والمجتمع لمصلحة الجميع من دون تمييز على أسس طائفية أو قومية أو حتى سياسية. الكتلة الفائزة تحكم لمصلحة الجميع وليس فقط الذين صوتوا لها والزعيم المنتخب هو زعيم لكل العراقيين وليس للذين صوتوا له وهذه حقيقة على الجميع أن يعرفها. لذلك فإن مواصلة العمل بمبدأ المحاصصة في الحكومة الأخيرة لا يبشر بخير ولن يكون في المصلحة العامة التي تُخدَم عندما يكون هناك التزام بالدستور والقوانين المتفرعة منه. الدستور العراقي حتى الآن ليس فيه نص يشرع لتوزيع طائفي للمناصب ونحمد الله على ذلك. إلا أن مواصلة الالتزام بالتقسيم الطائفي والقومي هو أمر خطير يؤسس لانقسام دائمي في البلاد، والأخطر من ذلك أنه يؤسس لانقسام في المجتمع قد تكون له عواقب وخيمة بعيدة الأمد. إن الحل لهذه المشكلة في رأيي هو أن يكون هناك تخلٍ عن بعض “الحصص” الوزارية من الكتلة الأكبر في مجلس النواب لصالح مرشحين مستقلين أكفاء ودعوني أبين الأسباب. أولا: الكتلة الأكبر لا تخشى على موقعها في البلد فهو مضمون شعبيا ودستوريا وعمليا من خلال الرقابة البرلمانية وهو لن يتأثر بعدد وزراء هذه الكتلة في الحكومة. ثانيا: سوف يتفرغ نواب الكتلة الأكبر لأداء عملهم الحقيقي وهو الرقابة على الحكومة وسيكون لهم دافع آخر للرقابة وهو الخوف من التجاوز على القانون واستئثار الجهات الأخرى في السلطة. ثالثا: على الكتلة الأكبر ِأن تبدي حرصا أكبر على مصلحة البلاد من الآخرين وتتصرف كـ “أم الولد” الحريصة على سلامة ابنها وهذا يتطلب تضحيات شخصية من أفرادها. رابعا: سوف تضرب الأغلبية مثلا في التفاني والإيثار للآخرين كي يتصرفوا بنفس الطريقة من أجل المصلحة العليا للبلاد. خامسا: ليست هناك جهة أقدر على فك هذه العقدة المتشابكة التي تزداد وثاقة وتعقيدا بمرور الزمن من كتلة الأغلبية لأنها تمتلك القدرة على التغيير. سادسا: الكتلة الأكبر، باعتبارها تمثل الأغلبية، سوف تجني أكثر الأرباح من القضاء على الطائفية والمحاصصة لأن تطور البلد وازدهاره سيعود بالفائدة على الجميع وأن الأغلبية سوف تكون أكثر المستفيدين. يتفق كل الأطراف السياسة والدينية والقومية أن الطائفية تترك تأثيرات سلبية ضارة على المجتمع وتساهم في زعزعة الاستقرار وتأخير التقدم، لكن المشكلة تكمن في من يمتلك الجرأة والشجاعة لأن يبدأ بإطلاق الرصاصة الأولى على الطائفية في العراق. هذه المبادرة تحتاج إلى جهة قوية ذات قيادة شجاعة وهذه الجهة هي الكتلة الأكبر في مجلس النواب الحالي وهو الائتلاف فهي الوحيدة القادرة على تولي مهمة صعبة كهذه، وأعتقد أن القائمة الوطنية العراقية، كونها علمانية التوجه، سوف تنضم مبدئيا إلى أي توجه من هذا النوع. على الأغلبية أن لا تخشى من التهميش خصوصا بوجود ضمانات كثيرة في ظل نظام ديمقراطي ودستور دائم وشعب متمسك بنيل حقوقه. العراق بحاجة ماسة للتخلص من الطائفية، وإن كنا حقا ديمقراطيين ومعادين لدكتاتورية صدام علينا أن نهدم هذا البناء الذي يهدف إلى تفريقنا والسيطرة علينا. ليس منطقيا أن نصم صدام بالطائفية والدكتاتورية ونتمسك بمخلفاته التي أوجدها أساسا لإضعافنا. إن تحقيق هذا المطلب ليس سهلا بل يتطلب تضحيات فردية من أشخاص يطمحون إلى تولي وزارات مهمة في الدولة. فهل يمتلك العراق سياسيين عظاما قادرين على التغلب على طموحاتهم الشخصية من أجل المصلحة الوطنية؟ وهل تحوّل معظم سياسيينا إلى طائفيين وباحثين عن مكاسب شخصية؟ أعتقد أن الأهم من تولي المسؤولية هو كيفية الوصول إليها. فإن كان عن طريق الحصص الطائفية والقومية فعلى كل وطني أن يرفضها كليا. الطريق المقبول وطنيا لتولي المسؤولية هو المشاركة السياسية البعيدة عن الطائفية والسعي لخدمة كل أبناء العراق. لن نتمكن من القضاء على الطائفية بالمحاصصة ولا يمكن لنا أن نتطور بوجود نظام لا يقيِّم الكفاءة بل الانتماء الطائفي أو القومي. نحن بانتظار البطل الذي يطلق الرصاصة الأولى على الطائفية ليعيد إلينا الشعور بالمواطنة والوطن والكرامة.