قد تبدو القصة غير قابلة للتصديق، وهذا فعلاً ما حصل لمقدم البرنامج الذي سأل ضيفه مذهولاً: «ولكن هذه دولة، فكيف تبنى بهذه الطريقة؟»، فرد عليه الوزير النحرير، لا فض فوه ولا عدمه حاسدوه: «أنا لا يهمني بناء الدولة»!
والنائب جعفر لم يأتِ بشيء من عندياته، فهو رجل بسيط ويتمتع بأخلاق رفيعة، لكن هذه ثقافة لُقّنت له منذ الطفولة، وهو يعتقد بأنها مهمة وضرورية وأنها واجب ديني وأخلاقي، وحتى وإن لم يكن هو شخصياً يؤمن بها فإنه يتوقع أن الناخبين يبحثون عمن يؤمن بهذه الأفكار النيرة ويطبقها على أرض الواقع كي يمنحوه ثقتهم.
طبعاً وجوده في مقدمة الأحداث منذ ١٣ عاماً، وزيراً ونائباً، أقنعه بأنه شخص مهم وأن عليه أن يدلي بدلوه في القضايا الفكرية والدينية، متوهماً أن من يشغل منصباً وزارياً يصبح بالضرورة مفكراً قديراً وسياسياً محنكاً، متناسياً أن هناك مهربين ومزورين وأشباه أميين أصبحوا وزراء ومسؤولين ونواباً خلال سنوات الفوضى المقيمة في البلد منذ أربعة عقود. لم يكن جعفر الوزير الأقل استحقاقاً للمنصب أبداً، فهناك من فاقه سذاجة وبساطة.
أحد الوزراء تحدث إلى وسائل الإعلام عن أنه أجرى محادثات مع «ضخامة» الرئيس فلان الفلاني! وزير ثانٍ تحدث في مؤتمر دولي حول البيئة مطالباً بإقامة «محميات لصيد الأسماك ومحميات لصيد الطيور»، متوهماً أن المحميات هي للصيد وليست للحماية منه. وزير ثالث خرج إلى وسائل الإعلام قائلاً إنه سيقيم دعوى على زميل له لأنه «شهّر به في برنامج تلفزيوني قائلاً إنه عميل لدولة أجنبية». وعندما قيل له إن الرجل لم يذكرك بالاسم قال: «من الواضح أنه يقصدني فليس هناك من تنطبق عليه الأوصاف غيري»! وزير رابع ضبطه مراقب الامتحانات يغش في الامتحان في إحدى الجامعات. وزير خامس اتهم نصف الشعب العراقي بالولاء لدولة مجاورة أثناء تمثيله العراق في مؤتمر دولي! وزير سادس صرح إلى وسائل الإعلام بأن حكومته منفتحة على «داعش»، وأن أربيل من المدن المدمرة، ليعتذر لاحقاً بأنه لم يقصد ما قاله. رئيس وزراء يخرج على الشعب العراقي مهنئاً بخروج العراق من الفصل السابع لميثاق الأمم المتحدة (سمّاه البند السابع)! علما أن العراق لم يخرج من الفصل السابع حينها ولم يخرج كلياً حتى هذه اللحظة.
أما عن «نواب الشعب» فحدث ولا حرج، فكثيرون منهم لا يعرفون واجباتهم ولا عهد لهم بالسياسة ولا يجيدون الحديث أمام الجمهور وربما لم يقرأوا كتاباً في حياتهم. أحدهم كتب مقالاً قائلاً إن «معاوية قتل الحسين وأصحابه خلال عشرة أيام، كل يوم يقتل واحداً منهم»! أحد كبار مستشاري الرئاسة اعترف في موقعه الإلكتروني بأنه ليست لديه شهادة، ولكنْ لديه «بحث حول الجِّن يعادل البكالوريوس»!
ألبرت أنشتاين، صاحب نظرية النسبية: جاسم محمد جعفر لن يوظفه كناسا لأنه لا يصلي!!
العراق أصبح دولة يقودها جهلة في الإدارة والسياسة، فلا وزير المالية له علاقة بالمال، ولا وزير الداخلية له علاقة بالقانون، ولا وزير الخارجية يفهم بالعلاقات الدولية أو يتكلم لغة إنكليزية، ولا وزير التعليم عمل يوماً في التعليم، بينما يصبح قائد مليشيا وزيراً لحقوق الإنسان! وضابط شرطة، لا يجيد التفوه بجملة واحدة أو كتابة سطر واحد من دون أخطاء، وزيراً للثقافة! وشيخ عشيرة لا يعرف الفرق بين «الفخامة» و «الضخامة» وزيراً للسياحة والآثار! أما السفراء فمعظمهم لم يعمل يوماً في السلك الديبلوماسي قبل أن يصبح سفيراً، وكثيرون منهم يعتقدون بأن المنصب مفصل على مقاساتهم، وأن مهمة السفير هي الاستجمام واستقبال المسؤولين الزائرين وإقامة الولائم لهم، وربما حضور احتفالات الجاليات العراقية في الخارج، وليس السعي إلى تطوير العلاقات الاقتصادية والسياسية والثقافية مع الدول المعنية والبحث المستمر عن مجالات جديدة للتعاون الثنائي. المديرون العامون هم الآخرون عُيِّنوا بطرق غير مهنية ومعظمهم عُيِّن في غير اختصاصه أو مجال خبرته، لذلك فإن أداءهم دائماً في حده الأدنى.
كيف يراد لدولة أن تتقدم إن كانت تدار بهذه الطريقة العشوائية؟ لا شك في أن الدكتور حيدر العبادي حاول إجراء إصلاحات هنا وهناك، لكنها ما زالت ترقيعية، فيداه مكبلتان بالمحاصصة والتشرذم السياسي وتدخل الدول الأخرى في شؤون العراق وتدني موارد الدولة الناتج من تدني أسعار النفط وعدم كفاءة جهاز الجباية وتكبيل الاقتصاد بقيود لا تمتّ للدولة العصرية بصلة، من كثرة العطل الدينية التي تُعَطِّل الحياة في عموم البلاد لأسابيع، إلى تفشي الفساد في دوائر الدولة، إلى هجرة الخبراء ورجال الأعمال والتجار والأكفاء من كل الاختصاصات، بسبب الفساد والإرهاب والاضطهاد السياسي والديني والتدهور الأمني وغياب الخدمات.
يعول كثيرون على الانتخابات المقبلة المقرر إجراؤها الشهر المقبل، ولكن ليس متوقعاً من هذه الانتخابات أن تنتج حكومة قوية بسبب تواصل التشرذم السياسي الذي وصل إلى انقسام حزب الدعوة إلى شطرين بسبب التنافس على الزعامة بين العبادي والمالكي.
وبدوري أتمنى على الناخبين ألا ينتخبوا أياً من العاهات التي ساهمت في تخريب البلد إن أرادوا أن يُحدِثوا تغييراً حقيقياً. فالانتخابات المقبلة هي الأخطر والأكثر غموضاً منذ بدء العملية السياسية الحالية قبل ١٥ عاماً. لا شك في أن أحزاباً وشخصيات كثيرة سوف تختفي من المشهد، وسوف تبرز محلها أحزاب وشخصيات جديدة، ولكن هل سيقود التغيير إلى إصلاح الأوضاع وتجديد حقيقي للعملية السياسية؟ إن لم يختلف القادمون، سياسياً وثقافياً، عن المنصرفين فإن التدهور سوف يتواصل.
https://fb.watch/gKBLfKK5oU/