إيلاف 6/9/2006
الم تكن مسألة العلم المشكلة العراقية الوحيدة العالقة أو التي فشل العراقيون في حلها بل هي امتداد للعجز العراقي الشامل المطبق في كل مكان. فقد عجزنا عن حل معظم المشاكل الكبيرة التي تواجه العراق، ابتداءا من المشكلة السياسية إلى مشكلة الأمن والخدمات إلى مشكلة المليشيات مرورا بإبعاد الكفاءات عن مواقع التأثير وتحويل دوائر الدولة إلى مؤسسات عائلية وحزبية عبر توظيف الأقارب والموالين، وانتهاء بمشكلة الفساد الإداري والمالي المستشرية التي تهدد بانهيار الدولة العراقية، أو ما بقي منها، برمتها. بل حتى القضايا التي تصورنا أننا انتهينا منها، مثل الدستور، الذي نتباهى أمام العالم أننا خرجنا وتحدينا الإرهاب وصوتنا له بنعم، لم تُحل كليا ولا يزال دستورنا غير مكتمل وفيه تناقضات وقضايا معلقة كثيرة بينما لا تزال اللجنة التي نص الدستور واتفق الأعضاء على تشكيلها لإجراء تعديلات فيه خلال أربعة أشهر من انعقاد مجلس النواب، لم تُشكل حتى الآن، وليس هناك نية في تشكيلها على ما يبدو. أما مشكلة نظام الحكم فهي الأخرى لا تزال عالقة وهناك من يتساءل حول فوائد الفدرالية وهل علينا أن نتبناها في العراق أم لا، فهناك من يريدها أن تمتد لتشمل تسع محافظات، وهناك من يصر على حصرها في محافظة واحدة فقط وهناك من يرفضها كليا. بل لا يزال البعض منا يتساءل إن كان النظام الديمقراطي يصلح للعراق، وهل علينا أن نتبناه أم لا، وهل ينسجم مع ثقافتنا وديننا أم لا!
موقف السيد مسعود البارزاني من العلم ليس جديدا، فهو لم يرفع هذا العلم منذ عام 1991 ومن لا يتفهم موقفه لن يتفهم أي شيء في العراق ولن يستطيع أن ينسجم مع العراق الجديد الذي يفترض أنه يحترم تنوع مكوناته ويراعي مشاعرهم ومشاكلهم ويسعى إلى حلها بالطرق الديمقراطية. لقد كان هذا العلم بالنسبة لمعظم العراقيين، ولكل الأكراد دون شك، رمزا للظلم والقهر والاضطهاد والإذلال والقتل والتمييز العنصري، ولا يمكن لهم (الأكراد على الأقل) أن يرفعوا علما يمثل كل هذا التاريخ المرير بإرادتهم. لقد سعى البارزاني في أول فرصة له، وهي ترأسه لمجلس الحكم في شهر نيسان عام 2004، إلى تغيير العلم. وأصدر المجلس برئاسته قرارا بتغييره وأوكلت مهمة التغيير إلى السيد نصير الجادرجي، عضو مجلس الحكم، الذي طلب من بعض الجهات، بينها شقيقه المعماري المعروف رفعت الجادرجي، أن تأتي بتصاميم لعلم جديد للعراق. وبعد عرض هذه التصاميم (المستعجلة) على جلسة (مستعجلة) لمجلس الحكم، استقر رأي المجلس على تصميم المعماري رفعت الجادرجي، باعتباره أفضل التصاميم المقدمة حينها. مجلس الحكم كان في عجلة من أمره لاعتماد علم جديد لأسباب كثيرة منها قرب موعد نقل السيادة للعراقيين في 30 حزيران 2004 وعدم رغبة الكثير من الجهات السياسية العراقية استخدام علم النظام السابق في العصر الجديد، بالإضافة إلى قرب موعد الألعاب الأولمبية وضرورة وجود علم عراقي جديد يستخدمه العراقيون في تلك الألعاب. لكن تصميم الجادرجي لم يحظ بقبول شعبي (رغم أنني التقيت بفنانين كانوا معجبين به) بسبب عدم ألفة الناس للألوان التي استخدمها، وانتشار إشاعة أنه يشبه علم إسرائيل التي بثتها الجهات المعادية له، رغم أنه لم يكن كذلك. إلا أن الحقيقة هي أنه تبني باستعجال ولم يناقش باستفاضة من قبل العراقيين، إذ لم يشترك في مسابقة تصميم العلم سوى قلة قليلة من الأفراد المحسوبين على جهات سياسية، مما جعل مجلس الحكم يرجح تصميم الجادرجي. لكن اتساع المعارضة للعلم الجديد وضعف مجلس الحكم في تلك الفترة اضطرت رئيس مجلس الحكم الشهيد عز الدين سليم للتخلي عنه والإبقاء على علم النظام السابق.
من نافلة القول إن أي تغيير سياسي كبير، كالذي حصل في العراق، في أي بلد في العالم، يرافقه تغيير للعلم. فقد تغير العلم في جنوب أفريقيا بعد سقوط النظام العنصري وفي إيران بعد سقوط النظام الشاهنشاهي وفي مصر بعد سقوط الحكم الملكي ومرة أخرى بعد وفاة عبد الناصر وتولي أنور السادات مقاليد الحكم، إذ تغير حتى اسم البلاد من “الجمهورية العربية المتحدة” إلى “جمهورية مصر العربية”. وفي وبلدان أفريقيا وقارات العالم الأخرى، أبدلوا العلم في كل مرة حصل فيها تغيير جذري. وفي العراق استبدل علم العراق الملكي عام 1958، بعلم الجمهورية، ثم استبدل الأخير عام 1963 عند الإطاحة بالجمهورية الأولى بالعلم المصري، المتخلى عنه، وفي 1990 عندما أراد صدام أن يضفي طابعا إسلاميا على غزوه للكويت، قام بتغيير العلم العراقي مرة أخرى. العلم يتغير مع النظام في كل مكان، إلا أنه لم يتغير في العراق لأسباب ليس لها تفسير سوى الإهمال والتناحر وعدم الكفاءة ووجود خلل في الأولويات. كيف نقبل بعلم قُتل وأُضطهد في ظله العراقيون من كل الأعراق والأديان والمذاهب والمناطق؟ كيف نقبل بعلم ارتكبت تحت لوائه المجازر الشنيعة من حلبجة إلى الأنفال إلى المقابر الجماعية إلى انتفاضات الجنوب والموصل والرمادي والنجف كربلاء والفرات الأوسط؟ كيف نقبل بعلم لم نره مرفوعا إلا وبجانبه صدام وعدي وقصي وعلي كيمياوي وحسين كامل وعزت الدوري وطه الجزراوي؟؟ كيف نقبل بعلم دولة أخرى فرضه علينا صدام حسين الذي نحاكمه الآن على جرائمه بحقنا؟ كيف نقبل بعلم لم يكن لأي منا رأي في اختياره؟ ألا يذكرنا هذا العلم بنظام سلب منا كل شيء ابتداءا من الكرامة وانتهاء بالإنسانية؟
http://www.elaph.com/ElaphWeb/ElaphWriter/2006/9/174747.htm