مياه الرافدين تتناقص منذ سبعينات القرن الماضي حتى أن بعض الروافد المغذية للأنهار قد جفت كلياً. أسباب الشح كثيرة، منها تنامي عدد السكان في البلدان المتشاطئة على حوضي الفرات ودجلة، والتغير المناخي وارتفاع درجات حرارة سطح الأرض وأخيراً إقامة (دول المنابع) سدود على الأنهار لخزن المياه واستخدامها على حساب العراق (دولة المصب).
كان العراق يعاني من الفيضانات في فصل الربيع، وكانت المياه تكتسح المدن والقرى المطلة على النهرين وتتسبب في تشريد السكان وتدمر المحاصيل الزراعية، وتقتل الأشجار المثمرة وتلحق أضراراً حتى بأشجار النخيل. آخر فيضان شهده العراق كان عام 1988، لكن مناسيب المياه في دجلة والفرات بدأت تنخفض منذ ذلك الحين بسبب الاستخدام المتزايد للمياه شمالاً وشرقاً وغرباً.
وبسبب النمو السكاني في دول المنابع، إذ يقدر عدد سكانها بمئتي مليون نسمة، لجأت كل من تركيا وسوريا إلى إقامة السدود على الفرات، ما قلص من كمية المياه إلى ما دون النصف وفق تقديرات الخبراء. ثم انتقل بناء السدود إلى دجلة، وآخر سد عملاق أقامته تركيا هو سد (أليسو) الذي يتسع إلى 11 مليار متر مكعب. ويقدر خبراء المياه بأن سد أليسو سوف يتسبب في خفض مناسيب المياه الواصلة إلى العراق بأكثر من 50 في المئة اعتبارا من تموز (يوليو) 2018.
أما إيــــران فقد أقامت سدودا على روافـــد نهري الزاب الأعلى والأسفل، وحرفت مسارات بعض روافــــد دجلة، وعددها بالعشرات، ولم يعد يدخل العراق أي كمية تذكر مــــن المياه من الجهة الشرقية، حتى أن نهر الوند، أحد روافد نهر ديالى، يتحول أحياناً إلى سكة للمواشي. نهرا الكرخة والكارون اللذان كانا يصبـــان في الأهوار وشط العرب، همـــا الآخران حُرِف مساراهما عبر إقامــــة السدود عليهما داخل الأراضي الإيرانية ما تسبب في نقص حاد في مياه الأهوار وتزايد مناسيب المياه المالحة الصاعدة من الخليج بسبب نقص المياه العذبة التي تصدها.
ونتيجة لتناقص المياه العذبة، انتشرت الملوحة في البصرة وتسببت في موت النباتات والأشجار والأسماك والأعشاب وخلق كارثة إنسانية، إذ يعاني السكان من نقص حاد في مياه الشرب منذ أكثر من عقد. أما جفاف الأهوار فقد تسبب سابقاً في تشريد الآلاف من سكانها والإضرار بسكان المدن المجاورة المعتمدين على منتجاتها من الأسماك والطيور والمنتجات الحيوانية والنباتية، ثم رفع درجات الحرارة في المنطقة برمتها.
هناك شح مياه في عموم الشرق الأوسط، ونتيجة لهذه الشحة تسعى بعض الدول إلى الاستحواذ على مصادر المياه التي تتحكم بها. في أحواض الأمزون والدانوب، على سبيل المثال، تلتزم الدول المتشاطئة بالاتفاقيات الدولية التي توزع المياه بعدالة بينها. في حوض النيل، كانت المياه توزع وفق الاتفاقيات الدولية حتى بدأت إثيوبيا تتحكم بمصادر المياه بعدما انشأت سد النهضة ما أضر بمصر كثيراً حتى أن الرئيس السيسي طلب من رئيس إثيوبيا التعهد علناً بعدم التجاوز على حصة مصر المائية.
العبء الأكبر من المشكلة تتحمله المناطق الطرفية (الذنائب) كما في العراق ومصر خصوصاً عندما تختار دول المنابع عدم الالتزام بالاتفاقيات الدولية التي تُلزِم الدول المتشاطئة بتوزيع عادل للمياه وتمنع استئثار دول المنابع بها. وفي غياب تفعيل القانون الدولي، لا يبقى أمام دول «الذنائب» من خيار سوى استخدام نفوذها وقوتها الاقتصادية لانتزاع حقوقها المائية، وهذا ما يحتاج العراق أن يفعله مع تركيا وإيران.
يجب الاعتراف بأن المياه لن تعود إلى الوفرة التي كانتها سابقاً في ظل الظروف المناخية الحالية. لذلك يجب أن يتكيف العراق مع الشحة ويسعى إلى توفير مياه الشرب بنسبة 100 في المئة. كما بات ضروريا أن يحذو العراق حذو دول الخليج وينشئ محطات تحلية المياه لضمان توفير المياه للأغراض الضرورية.
هناك فكرة أخرى يمكن أن تقدم حلولا للأزمة، إضافة إلى منافع أخرى تبدو كبيرة. وتتلخص الفكرة بحفر قناة تمتد من خور عبد الله على الخليج حتى بحيرة الرزازة في كربلاء. ومن المنافع المحتملة لهذه القناة استخدامها للملاحة بين الموانئ والمناطق الواقعة شمالاً وتخفيف الازدحام في موانئ العراق الصغيرة وتجنب حوادث السير على الطرق البرية التي تحصد آلاف الأرواح سنوياً. ويمكن أيضا إنشاء محطات عملاقة على القناة لتحلية الميـــاه لتزويد المدن العراقية بالمياه الصالحة للشرب، وستكون القناة أيضاً مصدراً مهما للأسماك البحرية، وتستخدم لسقي حزام أخضر من الأشجار التي تُروى بالمياه المالحة، للحد من التصحر الآخذ في الاتساع.
هناك حاجة لأن يتكيف العراقيون مع شحة المياه التي لا حل سهلاً لها. يجب أن تكون هناك مرونة في القطاع الزراعي إذ يبتعد المزارعون من الطرق التقليدية في الزراعة. زراعة الرز التي اعتاد العراقيون عليها منذ قرون، لن تكون مجدية مستقبلاً لأن أسعار الرز العالمية أقل كثيراً من كلفة من انتاجه في العراق. وسيكون صعباً إبقاء الأهوار منتعشة طوال الوقت لإنتاج القصب والبردي وصيد الطيور والأسماك وتربية الجاموس. كل هذه المظاهر المألوفة سابقاً سوف تختفي تدريجياً مع تناقص المياه المتدفقة من الشمال والشرق.
إنها نتيجة مؤلمة ومخيبة للآمال، ولكن الحياة العصرية غيرت البيئة والمناخ وطرق العيش وأصبح التأقلم ضرورة من ضرورات البقاء. يجب أن يتبنى المزارعون أفكاراً وطرقاً جديدة في الزراعة ويبتعدوا من الطرق التقليدية التي لم تعد مجدية. لقد أهملت الحكومات العراقية المتعاقبة قطاعي الزراعة والمياه إهمالا كبيرا وجعلت البلد يعتمد اقتصاديا على النفط بدلاً من تنويع الاقتصاد الذي يجعله أقل تأثراً بالأزمات. كان يمكن أن تناط إدارة قطاع المياه بخبراء غير سياسيين منذ عام 2003 من أجل إطلاع الناس على الحقائق وتقديم معالجات بعيدة الأمد للمشكلات الناتجة عن شح المياه، بدلاً من الانتظار حتى اشتداد الأزمة عام 2016 والإتيان بوزير تكنوقراط لإيجاد الحلول لها دون أن تُقدم له الإمكانات المطلوبة. يمكن الحكومة تخفيف الأضرار عبر توفير مصادر بديلة للعيش وتعويض المزارعين عن الأضرار الناشئة عن شح المياه، والأهم من ذلك توفير المياه الصالحة للشرب والضرورية لري المحاصيل الزراعية التي تحتاج كميات أقل من المياه.
https://goo.gl/u1f9vc