هل “المنبر العراقي” مبادرة للإصلاح أم نادٍ للخطباء؟
حميد الكفائي
فاجأنا سياسيون عراقيون مخضرمون مؤخراً بمؤتمر صحفي أعلنوا فيه عن تجمع سياسي جديد قالوا إنه لإصلاح العملية السياسية وإكمال المؤسسات الدستورية واستقطاب الشباب وإشراكهم في إدارة البلد! لا بأس في الإعلان، فالعملية السياسية حقاً تحتاج إلى إصلاح جذري، والمؤسسات الدستورية العراقية مازالت غير مكتملة، إن كانت حقا موجودة، بما فيها “مجلس الإتحاد” الذي ربما يأمل هؤلاء الساسة أن يكملوا مشوارهم فيه “لخبرتهم السياسية” أو ربما لكبر سنهم، إذ تجاوز أحدهم منتصف الثمانينات من عمره المديد، وكان قد اشترك في حكومات العراق منذ عام 1963، لاعباً أدوارا مختلفة، بينما تراوحت أعمار زملائه الآخرين، الساعين لكسب الشباب، بين السبعين والخامسة والسبعين!
هل يمكن هؤلاء الساسة الذين شاركوا في نظام ما بعد 2003 في كل مراحله وحكوماته الفاشلة أن يصلحوه فعلا؟ أم أن الهدف هو لفت الانتباه إلى وجودهم و(التهميش) الذي يشعرون به؟
أول ما يحتاجه العراق اليوم هو حصر السلاح بيد الدولة وتجريد الجماعات المسلحة من سلاحها الذي بدأت تستخدمه لتصفية خصومها، بعد أن استغلت ضعف الجيش وسيطرة داعش على بعض مناطق العراق للتسلح والتمترس بحجة محاربة الإرهاب. هذه الجماعات بدأت تستخدم قوتها العسكرية والمعلوماتية في قمع خصومها، فيوماً تخطف هذا وآخر تقتل ذاك كما حصل للروائي علاء مشذوب، الذي قتله (مجهولون) وسط مدينة كربلاء وأمام أعين الناس، والصحفية أفراح شوقي التي اختطفها (مجهولون) من منزلها وحققوا معها وأطلقوا سراحها بعد 9 أيام. وقبلهما قتل (مجهولون) هادي المهدي وكامل شياع وتارا فارس وسعاد العلي وكرار نوشي وخمائل محسن ونزار عبد الواحد وعشرات الأبرياء من مثقفين وصحفيين وناشطين مدنيين. لم يعُد المثقفون والكتاب وأصحاب الرأي يأمنون على حياتهم في العراق وكثيرون منهم التجأوا للعيش في الخارج بسبب فشل الحكومة في القبض على القتلة والخاطفين.
وبعد إنجاز مَهَمَّة حصر السلاح بيد الدولة، يجب أن تبدأ محاسبة المسؤولين الذين بدّدوا أموال العراق خلال 15 عاما، سواء بسبب سوء الإدارة أو عبر استغلالهم مناصبهم للإثراء على حساب المال العام. يجب محاسبة كل من أثرى بعد توليه منصبا رفيعا في الدولة. بعض السياسيين أثروا دون أن يتولوا مناصب، فأنشأوا مؤسسات وبنوكا وقنوات فضائية وشركات واشتروا عقارات في العراق وخارجه تفوق قدراتهم المالية، أو أنهم استولوا على عقارات الدولة كما فعل معظم قادة الأحزاب الحالية. السياسي الجاد المخلص هو الذي لم يطرأ تغيير كبير على وضعه المادي. هناك سياسيون يمارسون الابتزاز ويظهرون في وسائل الإعلام لابتزاز رجال الأعمال والشركات والمؤسسات ولا يسكتون حتى يحصلوا على مقابل. ظهر أحدهم قبل فترة مهددا هذا وذاك ومدعيا بأن هناك من عرض عليه 5 ملايين دولار لقاء صمته، واختتم تصريحه الأثير قائلا “لا أدري كم استطيع أن أصمد”! ولم نسمع منه اعتراضا أو تحديثا لما أدلى به وماذا حصل للقضية التي تحدث بها وهل مازال “صامدا” ام لا! لقد شكا لي رجل أعمال معروف قبل سنوات من العراقيل التي يضعها السياسيون والمسؤولون في طريقه، وأثناء لقائنا الذي دام ساعتين، اتصل به وزراء ونواب من كل ألوان الطيف العراقي الذي يبدو للناس متناقضا لكنه منسجم كليا على أرض الواقع، فالهدف هو الإثراء على حساب العراق، والاختلاف هو على الحصص فقط. وقد أطلعني على أسماء الذين اتصلوا به قبل أن يجيب على مكالماتهم، بل وجعلني أتحدث إلى بعضهم.
الفساد السياسي هو المسؤول عن الدمار والخراب وتدهور الخدمات في العراق، وهو المتسبب في قتل آلاف الجنود والشرطة والمواطنين، وهو المسؤول عن هزيمة الجيش العراقي امام داعش عام 2014، وهذه الكارثة تحديدا يجب ألا تمر دون محاسبة المسؤولين عنها لأنها تسببت في قتل آلاف العراقيين من أفراد الجيش والمواطنين العزل، وسبي واغتصاب وإذلال آلاف النساء وتخريب آلاف المنازل والطرق والجسور والمباني والمنازل، وضياع ملايين الدولارات في البنوك ونهب وتخريب مصافي النفط والمصانع والمخازن واستيلاء الجماعات الإرهابية على آبار النفط وبيعها له على مدى سنوات.
هيئة النزاهة لم تساعد في تقليص الفساد بل ربما زادته لأن هناك فاسدين كثيرين يتحججون بها كي يعرقلوا أعمال الناس ويحْمِلوهم على دفع الرشاوى لإنجازها. لقد أصبحت هيئة النزاهة ومشتقاتها عبئا ثقيلا على الدولة والمجتمع لذلك يجب التخلص منها ومن المؤسسات المرتبطة بها.
يبدو أن “المنبر العراقي” هو الآخر محاولة مستعجلة من بعض القوى لكسب الشرعية للبقاء في الساحة، وإلا فإنه يفتقر إلى تصورات عميقة للمشاكل والحلول. وعلى رغم وجود شخصيات معروفة بالكفاءة والنزاهة كالوزير والسفير السابق سمير الصميدعي والوزير ومحافظ البصرة السابق القاضي وائل عبد اللطيف، إلا أن هناك قوى متنفذة ساعية لتحقيق المزيد من النفوذ حاولت استغلال الفكرة وادعاءها لنفسها. وحسب مطلعين ومشاركين في التجمع فإنه كان في الأساس فكرة جاءت بها قوى خارج الأحزاب الحاكمة، ولكن، وخلال سعيها لكسب التأييد الواسع للمشروع، أطلعوا رئيس قائمة “الوطنية” أياد علاوي عليها بهدف كسب تأييده واتفقوا على إعلانه في مؤتمر صحفي، إلا أنهم فوجئوا بتصدر علاوي المؤتمر الصحفي واختطافه المشروع لنفسه. من يرفض الإعتراف بأخطائه لا يمكنه أن يجري الإصلاح، لأن الأخير يعني فيما يعنيه تصحيح الأخطاء وتجديد الإجراءات القديمة بأخرى صالحة.
يبدو أن الإصلاح في العراق صعب جدا بوجود الأحزاب الحالية المستفيدة من الفساد والفشل، لأنه سيعني إبعادها عن مراكز النفوذ وهذا ما ستعارضه بقوة. لذلك على قوى الإصلاح الحقيقية أن تبتعد عن إشراك القوى المستفيدة التي برهنت على فشلها يوما بعد آخر ورفضت الاعتراف به، لأن الفشل لم يأتِ صدفة بل كان نتيجة مباشرة لسعي هذه الأحزاب لخدمة قادتها وعائلاتهم على حساب العراق. الذي يأتي بأقاربه وتابعيه إلى المواقع المهمة في الدولة لا يمكن أن يتغير بين ليلة وضحاها في خريف عمره ليصبح وطنيا ومضحيا. مشروع الإصلاح يحتاج إلى إرادة صلبة ومشروع وطني متكامل ينهض به مخلصون جادون ومصممون على النجاح، وليس منبرا خطابيا للسياسيين الفاشلين.