العراق دولة في مهب الريح
الحياة 26 أوغسطس/آب 2019
يتوهم من يعتقد بأن لدينا نظاما ديموقراطياً حقيقياً في العراق، فالأمر لا يعدو كونه توازن قوى محلية غير مستقلة وغير مؤمنة بالديموقراطية، حفظته حتى الآن توزانات دولية. وهذا “التوازن” المؤقت الهش، لم يكن دوماً متكافئاً، فمرة تميل كفته نحو الشرق، وأخرى نحو الغرب، تبعاً لسياسات الدول المؤثرة فيه ومصالحها ومزاج حاكميها.
الصورة: عاصفة في بحر الجليل للرسام الهولندي رامبرانت
كثيرون، بينهم كاتب السطور، حذروا منذ سنوات عدة من أن هذا “التوازن” غير قابل للاستمرار لأنه ضعيف ولأن مصالح الدول الراعية له متعارضة، وها هو اليوم أصبح على كف عفريت بعد أن بدأت دول أخرى بالتدخل العسكري ضد قوى عراقية بسبب ارتباطها المزعوم بدول أخرى معادية. بعبارة أخرى، العراق أصبح فعلاً ساحة حرب بين دول عدة قوية والعراقيون سيدفعون ثمن هذا الصراع باهظاً. هل تتمكن حكومة عادل عبد المهدي، الضعيفة أصلاً، من قيادة العراق نحو الاستقرار؟ إنه أمر مشكوك فيه على رغم كفاءة عبد المهدي الشخصية وخبرته السياسية، إلا أن الوضع ربما بلغ من الخطورة بحيث أن العلاج أصبح يتطلب خطوات جريئة قد تزعج أطرافا متنفذة وقوية، داخلية وخارجية. الدولة العراقية أصبحت في مهب الريح، ولا بد من جهود استثنائية، عراقية ودولية، للمحافظة على تماسك العراق وإنقاذ شعبه من حرب أهلية وشيكة.
إن كان العراقيون يريدون أن يضعوا حداً لضعف الدولة الذي يعانونه، وأحسب أنهم يريدون ذلك، فيجب أن تتماسك مؤسسات الدولة وتتحد مرجعيات القوى الأمنية والجيش بحيث لا يكون لها ارتباط بدول أخرى أو حتى بقوى سياسية عراقية. الحكومة الحالية، كسابقاتها، تعلم أن بعض الميليشيات المنضوية تحت خيمة “الحشد الشعبي” لا تأتمر بأمر القائد العام للقوات المسلحة وهي تتبع أوامر رجال دين وقادة ميليشيات مرتبطين ارتباطاً مباشراً بإيران. وإيران دولة لها سياساتها التي تتعارض مع سيادة العراق ومصالحه، بل إن تلك السياسات أصبحت عبئاً على المنطقة برمتها بسبب تدخلاتها في شؤونها، ما اضطر دولاً إقليمية إلى شراء أسلحة ببلايين الدولارت من أجل حماية نفسها من التدخلات الإيرانية.
في العراق لا نحتاج أن نعادي إيران، أو نقف معها في حروبها وصراعاتها التي لا تنتهي، ولكن نحتاج أن نقف مع أنفسنا، ومع دولتنا التي اسمها العراق، ومصلحتها التي تقتضي أن تكون مستقلة. كل من يُقدِّم مصالح وسياسات دولة أخرى، عزيزة على قبله لأسباب عاطفية أو أيديولوجية أو مادية، على دولته العراق، لديه مشكلة حقيقية. هناك من العراقيين اليوم من يقف مع إيران بغض النظر عن مصلحة بلده ومستقبله وتاريخه ومكانته الحضارية وتماسك شعبه وفرص تقدمه، وهذه مشكلة جديدة سادت في العراق بعد نجاح ثورة الخميني في عام 1979، وعالجها النظام السابق بالقتل والاجتثاث والاقصاء، لكنها نمت وتوسعت على رغم قسوة النظام وربما بسببها. وقد استغلت إيران ولاء البعض لها أبشع استغلال، خصوصاً مع لجوء صدام إلى الفتك بأصغر منتقديه وأقلهم خطراً وأهمية، ما أدى إلى نمو هذا الولاء لإيران بين الإسلاميين الشيعة، فأصبحت إيران تسمى “بيضة الإسلام”! أي انها روح الإسلام (الشيعي) ومصدر حياته وسبب بقائه!
لدينا مشكلة معقدة في العراق، وما يفاقمها هو أن معظم مراجع الشيعة العراقيين عبر التاريخ ليسوا عراقيين، أي أنهم لا يشعرون دائما بمشاعر أهل البلد الوطنية، وهذا ليس انتقاصا منهم، فطبيعة الفكر الديني أنه عابر للحدود الجغرافية والقومية، لكن القادة السياسيين لأي بلد يجب أن يكونوا من أبنائه كي يفهموا مشاعر أهله وحاجاتهم ويرعوا مصالحهم. لذلك، شُرِّعت القوانين لتحظر على أي شخص وُلِد خارج بلده الحالي أن يصبح زعيماً له. وأثيرت هذه القضية على الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما عند انتخابه، إذا ادعى خصومه، زورا، بأنه مولود خارج أميركا ليحرموه من تبوء رئاسة الدولة. كما أثيرت في العراق ضد أياد علاوي وحيدر العبادي باعتبار أن أميهما لبنانيتان ولا يحق لهما قيادة العراق.
المهاجرون، وإن حرصوا واجتهدوا وتفانوا في سبيل بلدهم الجديد، وكثيرون منهم يسعون فعلاً إلى ذلك، بل أن بعضهم أحرص على البلد الجديد حتى من أهله الأصليين، فإنهم يبقون قاصرين عن تقدير المشاعر الوطنية والثقافية والتاريخية التي تشبّع بها أهل البلد الأصليون، وأصبحت جزءاً من هويتهم وثقافتهم ومزاجهم الوطني، وكثيراً ما اصطدم مهاجرون بمشاعر أهل البلد في الغرب، ليس تعمداً، إنما جهلا منهم بثقافته وتاريخه ومزاج أبنائه.
قبل أيام، أصدر المرجع الشيعي المقيم في إيران، كاظم الحائري “فتوى” وجَّهَها لمنتسبي هيئة “الحشد الشعبي”، التي يفترض بأنها مؤسسة أمنية عراقية، قال فيها إنه يحرِّم الوجود الأميركي في العراق! والمعروف عن الحائري أنه منسجم كلياً مع النظام الثيوقراطي الإيراني، إن لم يكن مرتبطاً به، ولا يقول شيئاً إلا بتنسيق، وربما بتوجيه من المرشد الإيراني علي خامنئي. في الثمانينات، تعرض “حزب الدعوة الإسلامية” العراقي لضغوط إيرانية نتيجة اتهامه بأنه مناهض لنهج “ولاية الفقيه” الذي تتبعه إيران، فقام الحزب بتعيين الحائري فقيهاً له، ليقنع الإيرانيين بأنه ليس ضد ولاية الفقيه. غير ان الحائري، باعتباره “فقيه الدعوة”، أصدر توجيها للحزب بـ “الذوبان في الجمهورية الإسلامية”، ما دفع الحزب إلى تجاهل رأيه وإلغاء منصبه كلياً.
آمل ألا تتبع هيئة “الحشد الشعبي” الرسمية آراء آتية من دول أخرى، فقانونها ينص على أنها مؤسسة عراقية تأتمر بأمر رئيس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة، وعلى منتسبي “الحشد” أن يفخروا بأنهم عراقيون ولا يمتثلون إلا للأوامر التي يصدرها القائد العام. وحتى وإن كان بعض أفراد “الحشد” من أتباع الحائري دينياً، فإنهم لابد أن يميزوا بين الرأي الديني والأمور المهنية والسياسية. أكبر مرجعية شيعية في العالم هي مرجعية السيد علي السيستاني في النجف، والسيستاني أفتى بضرورة أن يكون “الحشد” جزءا من المؤسسة الأمنية العراقية وأن يتبع أوامر القائد العام للقوات المسلحة.
في كل الأحوال فإن “فتوى” الحائري هذه، التي لم يطلبها منه أحد، خصوصا الدولة العراقية المعنية بها، فالفتوى عادة لا تصدر إلا بعد استفتاء، أي طلب رأي، تثير أمراً مهماً، وتدعو العراقيين عامة والسياسيين ورجال الدين والمفكرين تحديداً، إلى البحث في مسألة الإفتاء في القضايا التي هي من تخصص الدولة حصراً. هل يجوز لرجل الدين أن يتدخل في القضايا الأمنية والعسكرية والعلاقات الخارجية حسب وجهة نظره التي تتناقض مع مصالح الدولة وآراء مراجع آخرين؟ ثم من المسؤول عن العلاقات الخارجية أو قضايا الأمن؟ هل هي الحكومة المنتخبة أم أشخاص يقيمون في الخارج ويدينون بالولاء لدولة أخرى؟
المشكلة العراقية الشيعية معقدة وتحتاج إلى حلول ناجعة، وهذه الحلول لا تكمن في الاقصاء والإلغاء والاجتثاث، فهذه كلها جُرِّبت في السابق وقادت إلى نتائج عكسية، لكنها يمكن أن تحل بالحوار بين العراقيين والتفاهم بين المفكرين السياسيين والدينيين، للتوصل إلى حلول عملية تمكِّن الدولة العراقية من العمل من دون مؤثرات مزاجية أو شخصية أو آراء فقيهة خلافية. يجب أن تسود القوانين في الدولة وألا يكون رجل الدين فوق القانون بحيث يأمر أتباعه بمخالفتها من دون أن يخشى المساءلة. يجب أن تتمتع الدولة بالهيبة اللازمة كي تكون محترمة، وألا تقع تحت رحمة الآراء الدينية المتناقضة التي أصبحت كثيرة في الآونة الأخيرة.
واثق البطاط، الذي وصفه نوري المالكي بأنه “مخبول”، يقود جيشاً يهدد به دولا أخرى ومسؤولين عراقيين إن اتخذوا اجراءات لا ترضيه. والآن الحائري يصدر فتوى من مقره في إيران يدعو فيها مؤسسة أمنية عراقية لإعلان حرب على دولة عظمى يرتبط بها العراق بعلاقات وطيدة ضمن اتفاقية الإطار الاستراتيجي الموقعة بين البلدين. الدول الحديثة لا تدار بالفتاوى، بل عبر مؤسسات يقودها خبراء متمرسون وحكومات متماسكة تتخذ قراراتها وفقاً لمصالح الدولة. لقد أصبح لزاماً على الحكومة العراقية أن تتخذ إجراء حاسماً في هذا الأمر الذي لن يحل بالإهمال أو التجاهل.
حميد الكفائي