فضل عثمان يترجل بعد حياة حافلة بالإنجازات
حميد الكفائي
رحل إلى العالم الآخر اليوم، الثالث من أيلول/سبتمبر 2019، في بيروت الصحفي اللبناني المخضرم، فضل مليح عثمان، عن عمر قارب التسعين عاما. والراحل هو والد الصديق الدكتور خليل عثمان، الصحفي والأكاديمي والمسؤول الأممي. تعرفت على الراحل فضل عثمان قبل أكثر من خمسة عشر عاما عن طريق نجله، خليل، الذي عملت معه في مؤسسات وأماكن عديدة من العالم، منها بي بي سي في لندن، حيث التقينا لأول مرة قبل عشرين عاما، ثم التقينا في بغداد عام 2003 عندما كان مديرا لمكتب بي بي سي فيها، ثم البصرة عندما تولى إدارة مشروع إذاعة وتلفزيون المربد. بعد ذلك شاءت الأقدار أن نعمل معا في الأمم المتحدة في السودان والتي انتقل منها للعمل في العراق، في كركوك أولا ثم بغداد، التي كنت قد عدت إليها على التو من لندن. كما تزاملنا في جامعة أكسيتر البريطانية أثناء دراستنا لنيل شهادة الدكتوراه في العلوم السياسية.
كان أبو خليل في السبعينيات من عمره عندما تعرفت عليه، لكنه لا يشعرك بأنه مسن أبدا فمعلوماته حديثة وتصرفاته عصرية رغم أنه كان دائما يتحفنا بقصص عن مهنته الصحفية التي بدأت في وكالة رويترز للأنباء في أربعينيات القرن الماضي. كان دائما يقول “العمل الصحفي الحقيقي هو الذي مارسناه نحن أبناء الجيل القديم، عندما كنا نشقى ونتعب ونلاحق المعلومة لأيام قبل أن نحصل عليها. أما الآن فأنتم صحفيي هذا الزمان تأتيكم المعلومة والصورة والتسجيل والفديو جاهزة، وما عليكم إلا أن تختاروا منها ما شئتم. يا له من عمل سهل”. لا شك أن ما قاله أبو خليل صحيح فالعمل الصحفي، كباقي الأعمال، لم يكن سهلا في الزمن الماضي، لكن التطور قد طاول كل شيء وجعله سهلا، خصوصا مجال الاتصالات والإعلام. إلا أن مَهَمَّة الصحفي مازالت عسيرة رغم ذلك وها نحن نشهد المصاعب التي يتعرض لها الصحفيون في كل مكان، إذ يُقتل ويُختطف ويُجرح العشرات منهم وأحيانا المئات سنويا في مختلف أنحاء العالم.
عاش أبو خليل حياة ملؤها النشاط والعمل وشهد أحداثا مهمة في حياته وحسب ما أخبرني عند لقاءاتي به في بيروت فإنه شهد مقتل رئيس وزراء لبنان الأسبق رياض الصلح في عمان على أيدي عناصر من الحزب القومي السوري عام 1951 وقد ساعده هذا الخبر المهم الذي حصل عليه لصالح وكالة رويترز للأنباء، على الارتقاء مهنياً في الوكالة، وكان حينها صحفيا ناشئا. كما شارك في تغطية حرب عام 1967 في القدس وقد انقطعت أخباره عن أهله في تلك الفترة لفترة من الزمن.
متوسطا الراحل فضل عثمان ونجله خليل عام 2009
كما شارك في تغطية انقلابات سوريا المتعددة في الستينيات وأحداث أيلول الأسود في الأردن عام 1970 وكان من بين مجموعة من الصحفيين الذين علقوا في فندق انتركونتيننتال في عمان أثناء القتال بين الجيش الأردني والفدائيين الفلسطينيين. وشارك أيضا في تغطية الحرب الأهلية اللبنانية وخصوصا السنوات الأولى منها، وما يعرف بحرب السنتين 1975-1976، وتعرض للاختطاف والتهديد والضرب على أيدي الميليشيات المسيحية والفلسطينية، وفي إحدى المناسبات كُسرت أسنانه نتيجة الضرب الذي تعرض له. كما تعرض للاختطاف والضرب على أيدي عناصر من المقاومة الشعبية، الجماعة المسلحة التي شكلها رئيس الوزراء اللبناني الأسبق، صائب سلام، إبان الحرب الأهلية عام 1958. وأهم ما ميز عمله الصحفي هو الجرأة المنقطعة النظير والإقدام دون تردد أو خوف لتغطية الأحداث، ودون التفكير بالأخطار، وقد نجا من الموت مرات عديدة. لقد أورث الراحل العديد من صفاته هذه لنجله الأكبر، خليل، الذي سار على نهجه وأصبح صحفيا، وكان دائما يشجعه على الذهاب إلى الأماكن الخطرة، وطالما ردد على أسماعه (في الصحافة، العمل المتميز هو الذي تجتهد وتخاطر في سبيله). وبالفعل كان خليل يجوب العراق دون خوف في فترة كانت من أكثر الفترات خطورة وأتذكر بأنه أصر أن يأتي من البصرة ليزورني في الرميثة في ربيع عام 2004 غير آبه بالمخاطر، وقد أجرى مقابلات مع معظم سياسيي العراق في تلك الفترة وكشف أسرار العديد من القصص والسياسات الغامضة.
كان فضل عثمان، الى جانب تغطيته الميدانية للأحداث، يكتب أعمدة في الصحف منها صحيفتا “الجمهورية” و”لسان الحال”، وكان يوقع الكثير من أعمدته، التي تناولت قضايا اجتماعية وحياتية وشؤوناً سياسية لبنانية، بأسماء مستعارة أو بالأحرف الأولى من اسمه لأنه، كصحفي في رويترز، يجب ألا يستخدم اسمه الرسمي في كتابة المقالات التي يعبّر فيها عن آرائه والتي قد تحسب على المؤسسة التي يعمل فيها. ومن بين الأسماء المستعارة التي استخدمها كانت أسماء أولاده.
انتقل أبو خليل للعيش مع أولاده في أمريكا وكندا عدة مرات منذ الثمانينيات، لكنه لم يشعر بالسعادة هناك فعاد إلى لبنان، وإلى برج البراجنة تحديدا، المنطقة التي ولد ونشأ فيها وارتبط بها ارتباطا وجدانيا، خصوصا حي المنشية الذي ظل يسكنه حتى يومه الأخير. ينحدر فضل عثمان من عائلة متواضعة وقد شق طريقه في الحياة بنفسه وكان دائما يفتخر بوالدته التي ربته. وقد ذكر لي بفخر إنها كانت تعمل خادمة في منازل الأغنياء في بيروت وفي الزراعة في أرض والديها في برج البراجنة لكي تربي أولادها. وقد ظل أبو خليل يعتبر العمل مقدسا ولم يتوقف نشاطه الاجتماعي حتى دخل المستشفى قبل أيام. كنت قد تحدثت معه عبر الهاتف قبل أسبوع واحد فقط وكان متوقد الذهن كالعادة ويطلق النكات وقد سألته إن كان ما زال يدخن فقال نعم (شو بنعمل)! وقد طلبت منه أن يقلع عن التدخين مراعاة لصحته.
كان أبو خليل مثالا للإنسان الفخور بنفسه وعمله وانتمائه العربي، لم تستهوِه الأيديولوجيات والأحزاب رغم كونه عروبي الهوى وعاش في مرحلة اتسمت بالعواصف السياسية الجارفة، فمن احتلال فلسطين إلى الثورات المصرية والعراقية والسورية والليبية والسودانية واليمنية إلى نكسة حزيران وحرب 1973 واحتلال الجولان ثم الجنوب اللبناني في الثمانينات. كان أثناء سني دراسته أواخر الثلاثينيات والأربعينيات يشارك في المظاهرات المناهضة للانتداب الفرنسي والمطالبة بالاستقلال وكان يذهب من محلّته، برج البراجنة، إلى بيروت التي لم تكن قريبة عن البرج، إذ كانت الأحياء متباعدة والتنقل صعبا، من أجل المشاركة في تلك المظاهرات.
وعلى الرغم من الصورة النمطية السائدة في العالم العربي حول (طائفية) اللبنانيين، إلا أنني لم ألحظ أيَّ ميول طائفية لدي أبي خليل على الإطلاق، كما لم أرَ عنده تشددا لأي شيء، بل كان موضوعيا في آرائه وعقلانيا في طروحاته. عاش سعيدا وفخورا بأبنائه الأربعة الذين نجحوا جميعا في حياتهم، كل في مجال عمله، وكان يفخر بأنه لم يورثهم مالاً وإنما أورثهم علماً، وأكثر ما كان يفخر به الراحل هو نجله البكر الدكتور خليل، ولا غرابة في ذلك، فخليل رجل متقن لعمله ومبدع في كل مجال طرقه، من الصحافة إلى الإدارة إلى العمل الأكاديمي والتأليف، إذ صدرت له عدة كتب ودراسات علمية أكاديمية مهمة حتى الآن في اللغتين العربية والإنجليزية، فضلاً عن العديد من المقالات والتقارير الصحفية. عندما التقيت بخليل أول مرة، حسبته عراقيا لأنه يجيد التحدث باللهجة العراقية ويعرف كل شيء عن العراق، بل إن معلوماتِه عن العراق تفوق معلومات معظم العراقيين. وعندما أخبرني بأنه لبناني لم أصدق لأنه لا يمكن لبنانيا أن يعرف كل هذه المعلومات الغزيرة والتفاصيل الدقيقة عن العراق، تأريخا وسياسة وجغرافية وديموغرافية. لقد كتب خليل كتابين عن العراق حتى الآن بالإضافة إلى عشرات المقالات باللغتين العربية والإنجليزية.
وداعا أبا خليل، نم قرير العين، فسيرة حياتك مثال يطمح كثيرون أن يقلدوه. خالص التعازي والمواساة لأبنته الحاجة فادية، وأبنائه الثلاثة، خليل وعماد ونبيل، الذين يفتخرون دون شك بأبيهم، الرجل الشجاع المعطاء الذي لم يبخل عليهم يوما بمال أو جهد أو رعاية.
الراحل فضل عثمان ونجله خليل أثناء عيادتهما أخي الراحل حسن في مقر إقامته في بيروت عام 2012