الدولة الحديثة تتطلب تنازلا من مواطنيها
في عالمنا العربي ما زلنا نناقش بديهيات تجاوزها العالم منذ أكثر من قرنين من الزمن. مازالت كل مجموعة من مجاميعنا السكانية، دينية كانت أم طائفية أم عرقية أم مناطقية أم سياسية، تريد أن تسيِّر البلد كله حسب رغبتها وأهواء قادتها، بمعزل عن آراء ومصالح باقي السكان. وهذه المسألة تتجلى في أوضح صورها في العراق حاليا. لكن هذا غير ممكن في الدولة الحديثة التي تتطلب، كي تكون فاعلة وقوية، أن يقدم مواطنوها تنازلات عن بعض متبنياتهم الفكرية لقاء بقائهم في دولة واحدة تضمن حقوقهم جميعا. ليس بإمكان الدولة أن تلبي رغبات وطموحات كل مواطنيها لأنها متعارضة ومتناقضة في العادة، ولكن يمكنها أن تلبي الحد الأدنى منها وهو تطبيق القانون على الجميع ومطالبتهم بإطاعة قوانينها.
الجماعات (السياسية) في العراق مختلفة على كل شيء ومتصارعة على كل شيء، وليس لديها ثوابت متفق عليها، بل هناك بينها من لديه مليشيات مرتبطة بدول أخرى، وهذا الوضع لن يقود إلى قيام دولة قوية قادرة على الصمود في عالم لا يعرف غير مبدأ البقاء للأقوى، كما إنها لن تكون قادرة على خدمة مواطنيها، حتى ضمن الحدود الدنيا، بل إن وضعا كهذا سيحولها إلى دولة مهمتها الأساسية “ضبط التنافرات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية من اجل الحفاظ على الوحدة الجغرافية – السياسية أو الكيان الحقوقي الذي قد تقتصر عليه” حسب التعبير البليغ للمفكر عزيز العظمة. ولكن قدرة الدولة العراقية، حتى على ضبط التنافرات، لم تعد ممكنة لأن هذه التنافرات أصبحت قوية بينما الكثير من القوى المتنافرة تمتلك السلاح الثقيل ويمكنها أن تفعل ما تشاء.
لقد أظهر تحقيق نشرته صحيفة التايمز البريطانية في الثامن من سبتمبر/أيلول الجاري أن المليشيات في العراق تعمل خارج القانون وهي تهرب المخدرات وتقتل وتغتصب من تشاء ولا أحد يقدر على مواجهتها أو مساءلتها أو حتى نقل تجاوزاتها صحفيا. وحسب التقرير فإن أحد قادة المليشيات أمر أفراد حمايته باغتصاب طبيبة عراقية معروفة ثم قتلها ولم تجرؤ الدولة العراقية على مساءلته حتى الآن، وهو مازال حرا تحميه مليشياه. قائد مليشيا آخر أمر بقتل عارضة الأزياء الشابة تارة فارس ولم يساءله أحد على هذ الجريمة الشنعاء. وفي الفترة نفسها قتل (مجهولون) صاحبة محل التجميل، رشا الحسن. كما قُتل ناشطون آخرون منهم علاء مشذوب وسعاد العلي ولم تتمكن الشرطة حتى الآن من ملاحقة القتلة وتقديمهم للقضاء، ولا احسب بأنهم مجهولون لديها.
سكوت الدولة، التي تملك أكثر من مليون شرطي وجندي وآلاف المحققين والقضاة وميزانية تفوق مئة بليون دولار على هذه الجرائم البشعة ضد النساء والمثقفين والأطباء والصحفيين والناشطين والناس العاديين، يزيد من استهتار قادة المليشيات وعصابات الجريمة المنظمة وارتكابهم جرائم أخرى، وفي الوقت نفسه فإنه يقلل من احترام الناس للدولة بشكل عام. السؤال الذي يسأله المواطن العراقي هو لماذا يتردد رئيس الوزراء في محاسبة المجرمين والمتجاوزين على القانون؟ أليس هذا ضعفا وخللا غير مبرر؟ هل من المعقول أن أجهزة الدولة الأمنية وجيشها وقضاءها ومخابراتها غير قادرة على محاسبة زعيم مليشيا يرتكب الجرائم جهارا ونهارا؟ على الذين رشحوا رئيس الوزراء وصدّقوا على حكومته مراجعة أنفسهم وضمائرهم، والإجابة على السؤال المتكرر: هل رئيس الوزراء قادر حقا على إدارة هذه الدولة أم لا.
قد يقول قائل إن رئيس الوزراء مقيد ولا يستطيع أن يفعل أكثر من هذا، ولكن أليس هذا لأنه لا يستند على قاعدة سياسية قوية؟ أليس هذا بسبب اختيار حكومة ضعيفة لا تستند على تفويض شعبي حقيقي. المستغرب هو أن كتلة (سائرون) وهي أكبر المجاميع السياسية الممثلة في البرلمان، وكتلتي (النصر) و(دولة القانون) بالإضافة إلى (الوطنية) والكتل الكردية والسنية هي الأخرى تشعر بأنها مكبلة ولا تستطيع أن تفعل شيئا. أين هي حنكة رئيس الوزراء وقدراته السياسية التي طالما حدثنا عنها؟ لماذا لا يشكل تحالفا برلمانيا يمكنه لجم هؤلاء الخارجين على القانون الذين تدعمهم دولة معروفة لا تريد العراق أن يكون قويا متماسكا بل تريده ورقة ضغط في حروبها الخارجية التي لا تنتهي.
رجال الدولة العظماء هم الذين يبرزون في أيام الشدائد والأزمات ويتمكنون من اجتراح الحلول لإنقاذ بلدانهم وشعوبهم. لم يصبح تشرشل ولا ديغول وولسون وروزافلت وآيزنهاور ومانديلا عظماء إلا لأنهم تمكنوا من إنقاذ بلدانهم من أزمات خانقة وأوضاع معقدة. إن أراد عادل عبد المهدي أن يخلده التأريخ، وهو على ما يبدو مهتم به جدا، فعليه أن يكون حازما مع الخارجين على القانون وتقديم المستهترين بالدولة والقانون إلى المحاكم والانتصار للمظلومين من المثقفين والضعفاء والنساء اللائي استأسد عليهن الجبناء ممن يحملون السلاح دون وجه حق وبشكل غير قانوني؟ بإمكانه أن ينقذ العراق عندما يتخلى عن سياساته التوفيقية المتذبذبة التي زادت حملة السلاح غطرسة وقوة. نعم المسألة تحتاج إلى مواجهة، وإن كان لابد منها، فلتكن، والعراقيون سوف يساندونه من أجل أن تكون لهم دولة قوية ومحترمة، تطبِق القانون وتنتصر للضعيف.
لم تنفع المناشدات السابقة للقوى الحاملة للسلاح التابعة لبلدان آخرى، دون أدنى اكتراث لمشاعر الشعب العراقي ومصالحه، في تغيير مواقفها، فضميرها الوطني غائب كليا على ما يبدو، ولم يبقَ أمام رئيس الوزراء سوى المواجهة الصريحة معها. لديه جيش عرمرم وأجهزة أمنية قوية وشعب مستاء من هذ الفوضى وتواق للاستقرار والحياة الحرة الكريمة، وهناك أيضا دول عظمى وإقليمية سوف تسانده في مسعاه هذا، فماذا ينتظر؟ إيران سوف ترضخ للأمر الواقع إن رأت عراقا قويا مدعوما دوليا. الظرف الدولي الآن يسمح بهذه المواجهة فليقدم عليها عبد المهدي من أجل العراق. وليكن معلوما له أن العراقيين لا يرغبون في معركة مع أي بلد، ولكن لابد من خوض المعركة مع القوى التي تسعى لإضعاف الدولة، من أجل ترسيخ الاستقرار والبرهنة على أن العراق لن يكون لقمة سائغة لأحد وأن القانون فوق الجميع.
حميد الكفائي