هل يمكن مقارنة العراق بلبنان؟
حميد الكفائي
سكاي نيوز عربية 20/10/2019
طالما تُجرى مقارناتٌ بين العراق ولبنان من حيث النظام السياسي القائم على المحاصصة الطائفية، غير أن الفروق بين البلدين والشعبين هائلة على رغم وجود أوجه التشابه.
لقد اتضحت الاختلافات بين ثقافتي البلدين والشعبين بجلاء في الاحتجاجات الأخيرة في كل منهما، التي وُوجهت بقسوة وعنف في العراق بينما مرت بهدوء وسلام في لبنان، وفي هذا درس بليغ لمن يجري هذه المقارنات غير الدقيقة خصوصا من العراقيين الذين يخشون (لبننة) العراق!.
صحيح أن هناك تشابها بين العراق ولبنان من حيث وجود التنوع الديني والطائفي والثقافي، واتباع نظام الديمقراطية التوافقية (consociational democracy) أو المحاصصة الطائفية (confessionalism) وما ينتج عنهما من فساد وتحكم زعماء الطوائف، لكن هناك فروقا ثقافية واسعة بين البلدين والشعبين. أهم هذه الفروق هي أن المجتمع اللبناني مجتمع لِبرالي عصري، لديه مشتركات راسخة يحترمها الجميع، بينما المجتمع العراقي محافظ تهيمن عليه القيم الدينية والقبلية والتبعية لرجال الدين، ولم يستطع حتى الآن أن يؤسس لمشتركات يجتمع عليها العراقيون.
أهم علامة على تحضر وعصرية المجتمع اللبناني هي حصول المرأة اللبنانية على حقوقها، وحتى القوى المحافظة (والمسلحة) لا تجرؤ على سلبها أيا من تلك الحقوق، بل تعترف بوجودها ودورها الريادي في المجتمع، وقد رأيناها تشارك بقوة في الاحتجاجات، وهذا لم يحصل في العراق الذي اقتصرت الاحتجاجات فيه على الذكور في الغالب.
في العراق، مازالت المرأة تناضل من أجل الحصول على أبسط الحقوق، بل إنها فقدت حتى الحقوق التي حصلت عليها بعد قيام الجمهورية عام 1958. حرية المرأة مازالت مقيدة بقيود دينية واجتماعية قاسية وهي لا تستطيع القيام بأبسط الواجبات أو النشاطات دون أن يكون الرجل بجانبها، قائدا وموجها، وهذا الوضع سائد في معظم مناطق العراق، باستثناء العاصمة التي لها وضع ثقافي خاص لكنه يسير هو الآخر نحو المحافظة بسبب هيمنة القوى الدينية والمليشيات المدعومة إيرانيا على المجتمع.
صحيح أن القانون العراقي يضمن للمرأة تمثيلا في البرلمان بنسبة 25%، لكن هذا التمثيل بقي شكليا حتى الآن، فأعضاء البرلمان النساء يختارهن الرجال ولا يُنتخَبن في أكثر الأحيان على أساس تبنيهن قضايا المرأة وإنما على التزامهن بتوجيهات ومتبنيات قادة الجماعات السياسية التي ينتمين لها، فهن في الواقع خيارات ذكورية بامتياز، ولا يمثلن النساء في معظم الأحيان.
ولأن معظم القوى الممثلة في البرلمان العراقي قوى عائلية دينية فإن المرأة البرلمانية مُكبَّلة بقيود دينية ثقيلة تمنعها من المشاركة السياسية الفاعلة وتضطرها في أكثر الأحيان إلى ارتداء زي ديني موغل في القدم يُكبِّل حركتَها بل حتى قدرتَها على الحديث.
من أنشط البرلمانيات العراقيات وأكثرهن قدرة على التعبير بوضوح عن القضايا العامة، هي النائب هدى سجاد، لكن انتماءها إلى إحدى القوى الدينية يكبِّل حركتها وقدرتها على التعبير عن شؤون النساء.
لا يتأثر المجتمع اللبناني غالبا بآراء رجال الدين المحافظة، بل ظل مجتمعا لِبراليا على رغم وجود المحافظين فيه الذين لا تؤثر لِبرالية المجتمع على وجودهم وتمسكهم بعقائدهم ونمط حياتهم، لكن المشكلة تحصل عندما يقود المحافظون الدولة، لأنهم يسعون دائما لفرض رؤاهم الدينية والاجتماعية وفهمهم المحدود للسياسة والعلاقات الدولية على المجتمع، وبذلك يعم الضرر على البلد ككل.
بعبارة أخرى، المجتمع والدولة لا يتضرران من وجود القوى اللِبرالية في الحكم، لأنها تسمح بالتعددية وتضمن الحريات العامة للجميع، لكنهما يتضرران من وجود القوى المحافظة في السلطة، خصوصا الدينية منها، لأنها مجبولة، عقائديا وفكريا، على فرض رؤاها على الآخرين، إذ تعتبر ذلك واجبا دينيا أو أخلاقيا، وهذا يتناقض مع الأسس التي يقوم عليها المجتمع الحديث القائم على التعددية والفردانية. صحيح أن هناك نماذج منفتحة لقوى سياسية محافظة، مثل حزب النهضة التونسي، ولكن هناك أسبابا ثقافية تتعلق بطبيعة المجتمع التونسي وتأريخه، وليست هذه المساحة مجالا للخوض فيها، ولكن القوى الدينية بشكل عام تسعى للهيمنة على تفكير المجتمع وسلوكه ونشاطاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية وجعله كتلة بشرية تتحرك وفق سياقات محددة.
أما المجتمع العراقي فتتناوبه التأثيرات الدينية والقبلية ذات اليمين وذات الشمال، فإن أفلت من تأثير القوى الدينية، هيمنت عليه القوى القبلية والعائلية والقومية المحافظة التي تسعى لأن تتحكم به وتسجنه في كهوفها الماضوية وتجعله تابعا لها.
مازالت المرجعيات الدينية تتدخل في شؤونه السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ومع أن تدخلاتِها ليست سلبية دائما، ولكن الكثير منها لا يساعد على تعزيز الهوية الوطنية العراقية أو الاندماج العراقي في المجتمع الدولي والاقتصاد العالمي الذي يحتاجه المجتمع الحديث. والمشكلة الأكبر التي يواجهها العراق هي التدخل الإيراني ذو الطابع الديني والمذهبي ظاهريا، لكنه في الحقيقة تدخل عسكري وسياسي واقتصادي وثقافي، ويمثل استراتيجية بعيدة الأمد تهدف إلى إضعاف العراق، الذي كان على مر العصور منافسا سياسيا وثقافيا وعسكريا واقتصاديا للدولة الفارسية.
وبينما تدعم إيران مليشيا واحدة في لبنان، هي مليشيا حزب الله، فإنها تدعم عشرات المليشيات في العراق، والسبب واضح، وهو إضعاف الدولة العراقية وتفتيتها وجعلها دولة هزيلة تسير في ركب إيران وتنفذ مآربها إقليميا ودوليا.
في لبنان، تسعى إيران لأن تكون مؤثرة من خلال دعمها قوة واحدة، تكون ذراعا عسكريا وسياسيا ضاربا لها، وأن أي تشتت في (الجهد) الإيراني في لبنان، سيأتي بنتائج معاكسة لما ترمي إليه السياسة الإيرانية في المنطقة.
والشيء نفسه ينطبق على اليمن، فإيران تدعم مليشيا الحوثي فقط لأنها تعلم بأن أي تشتت في القوى التابعة لها سيؤثر سلبا على سياستها العامة في المنطقة. لكنها في العراق تسعى إلى الإضعاف والتفتيت لأنها تعلم بأن توحيد القوى التابعة لها سوف يقابله توحد القوى المناهضة، التي ستتمكن من التغلب على القوى التابعة لها، كما حصل عام 2010، عندما حصلت القائمة العراقية، على رغم كل عيوبها وقصورها، على أعلى المقاعد في البرلمان، ما دعا إيران إلى توحيد القوى التابعة لها، على رغم اختلافها وتناحرها، كي تتمكن من الاحتفاظ بالسلطة بطريقة تتنافى مع المبادئ الدستورية والأعراف الديمقراطية وإرادة الشعب العراقي الديمقراطية.
وأمام التشتت العربي، وعدم وجود سياسة عربية متماسكة لدعم العراق، والفهم السطحي الأمريكي لمشاكل المنطقة ومعالجاتها القاصرة، وانسياق الإدارة الأمريكية وراء توجهات إسرائيل، تمكنت إيران من تحقيق المزيد من الهيمنة على مقدرات العراق ودول أخرى في المنطقة.
لقد تعاملت الأجهزة اللبنانية والجيش مع الاحتجاجات وفق القانون وبشكل متحضر، كما يتطلب أن تتعامل الدولة العصرية مع مواطنيها. أما في العراق فقد تعاملت الأجهزة (الأمنية) العراقية بقسوة ووحشية منقطعة النظير. فلم يحصل في التأريخ الحديث أن يسقط 7 آلاف شخص بين قتيل وجريح خلال 5 أيام في مظاهرات سلمية كفلها الدستور، كما حصل في العراق بين الأول الخامس من أكتوبر 2019، بينما لم نسمع من حكومة العراق (المنتخبة) غير التبريرات الهزيلة واعتبار القتلى (شهداء)! وكأن هذا هو الحل الأمثل للمشكلة. لقد برهن رئيس الوزراء، عادل عبد المهدي، على أنه شخص ضعيف ومتمسك بالسلطة بأي ثمن، وقد سقطت كل ادعاءاته السابقة، بما فيها الدينية، إذ لم يستجِب لنداء المرجعية الشيعية التي حمّلته المسؤولية على الجرائم التي اُرتُكِبت بحق المتظاهرين الشبّان، وطالبت بإجراء تحقيق مستقل خلال أسبوعين.
كان رد عبد المهدي هو تكليف فالح الفياض، المعروف بشخصيته الهزيلة وتفكيره المسطح وتبعيته المطلقة لإيران، وموقفه السلبي المعلن من المظاهرات والحريات العامة، بترأُس لجنة التحقيق! إن نتائج تحقيق كهذا، معروفة سلفا، وهو سيقول حتما إن “هناك قوى تخريبية (بعثية) قد (اندست) بين المتظاهرين وهي التي مارست القتل الذي لم يقتصر على المتظاهرين بل تعداه إلى الأجهزة الأمنية”! إن لم يُجرَ تحقيق شامل تتبعه محاسبة عسيرة للقتلة ومن يقف وراءهم، فإن المجتمع العراقي بكل قواه سيبقى غاضبا ومتأهبا للانقضاض على هذه الطبقة السياسية الفاسدة، ولن تتمكن هذه الحكومة أو غيرها من تمييع قضية (مجزرة الشُبّان) وسحق المظاهرات المشروعة بالقوة. إنها قضية وطنية وعربية ودولية وإنسانية في غاية الأهمية، ولن تُنسى بسهولة كما يتمنى عادل عبد المهدي وحكومتُه الهزيلة.
أوجه التشابه بين لبنان والعراق محدودة، ففي لبنان دولة عصرية وشعب لبرالي متحضر وطبقة مثقفة متنفذة وصحافة حرة نسبيا ووسائل إعلام تعكس تعددية المجتمع الذي يتمتع بإجماع على مشتركات وطنية عابرة للتنوع الطائفي، مع عدم إنكار المشكلة الطائفية والفساد والفشل الحكومي الناتج عنها في تحديث البنى الأساسية للبلد وتحسين الخدمات العامة. أما العراق فمازال مجتمعه يرزح تحت نير القوى الدينية القروسطية والقيم القبلية المتخلفة وطبقة سياسية فاسدة صماء غير قابلة للتطور وغير مؤهلة أو قادرة على فهم مشاكل المجتمع ولا تمتلك الأهلية والجرأة على تشخيص العلل واجتراح الحلول، بل لا توجد حتى الآن مشتركات وطنية مُتفقٌ عليها يلتزم بها العراقيون جميعا.
لا شك أن الوعي العراقي بضرورة قيام دولة عصرية ترعى المواطنين جميعا دون تمييز هو في تصاعد، وقد مثَّلت احتجاجات البصرة لعام 2018 بدايةً واعدة لتشكُّل إجماع وطني باتجاه إقامة مجتمع عصري.
بينما شكلت الاحتجاجات الأخيرة التي عمّت كل مدن العراق الرئيسية، انطلاقة قوية لترسيخ مبادئ العصرنة واللبرالية، وتوسعا للإجماع الوطني على هذه المبادئ. كما إن ردة فعل الحكومة العنيفة على الاحتجاجات قد عززت من إيمان الناس وتصميمها على منع عودة الأساليب القمعية التي كانت سائدة في زمن النظام السابق. سيبقى الأمل معقودا على الأجيال الصاعدة التي تبدو مصممة على إنشاء دولة عصرية تلبي طموحات العراقيين في تحقيق العدالة وصيانة الحريات المدنية والإنطلاق نحو المستقبل.
لكن الاحتجاجات وحدها لن تقود إلى التغيير المنشود إن لم تتشكل قوى سياسية منظمة تمثل القوى اللبرالية الصاعدة سياسيا. مثل هذه القوى يجب أن تتشكل الآن كي تمثل التوجه الجديد، ولا شك في أن فرصتها كبيرة لقيادة العراق في المرحلة المقبلة إن هي توحدت واتفقت على برنامج سياسي واقتصادي واقعي ومدروس وقابل للتطبيق، وانتخبت قيادات بمستوى التحدي الذي تواجهه. القوى السياسية الحالية مدعوة لدعم هذا التوجه، أو على الأقل عدم إعاقته، إن كانت حقا تريد خير العراق.