كيف استثمرت إيران سلاح الطائفية
حميد الكفائي
سكاي نيوز عربية 10/11/2019
تحولت إيران إلى التشيع قبل 500 عام تقريبا، ولم يكن سبب التحول عن قناعة دينية لحكامها، بل كان بسبب صراعها مع الدولة العثمانية السنية، فأرادت أن تواجهها دينيا وتجعل سكانها الأتراك ينسجمون مع سكانها الفرس كي يشكلوا معا جبهة واحدة ضد العثمانيين.
ومنذ ذلك الحين استخدم حكام إيران، على اختلاف سياساتهم وتوجهاتهم وأنظمة حكمهم، سلاح الطائفية في الداخل، لصهر باقي الأقوام ضمن الثقافة الفارسية، خصوصا الأذربيجانيين الأتراك، الذين يكافئون الفرس في العدد، وفي الخارج، من أجل زعزعة استقرار البلدان التي يطمح قادة إيران بالاستيلاء عليها، اوعلى الأقل استغلالها، وبالتحديد العراق، الذي سعت إيران على مر العصور لإلغائه من الخارطة، لكنه بقي وسيبقى عصيا عليها.
كان نظام شاه إيران، محمد رضا بهلوي، قوميا فارسيا علمانيا تسلطيا، أو ما يسمى في علم السياسة، نظاما سلطانيا، يعتمد على إخضاع الناس جميعا لأوامر الحاكم وأفراد عائلته المقربين. لكن هذا النظام غير الديني استخدم هو الآخر سلاح الطائفية وكانت وسائل إعلامه العربية تحديدا تعمل على بث الفرقة بين أتباع المدرستين الإسلاميتين وتأتي بالخطباء الطائفيين كي يركزوا على الاختلافات المذهبية. لكن هذا الخطاب الطائفي لم ينطلِ على العراقيين الذين يدركون أن إيران لا يهمها الشيعة من قريب أو بعيد، بل يهمها التوسع وإضعاف الدول الأخرى المجاورة لها كي تتسيد المنطقة. غير أن هذا الخطاب الطائفي وجد لاحقا من يصغي إليه بين البسطاء، وما كانت إيران لتنجح في مساعيها هذه، حتى جزئيا، لولا غباء النظام العراقي السابق، الذي قدم لها كل ما تريده من وسائل وبراهين تدعم توجهاتها الطائفية، من قمع وسجن وقتل لخصومه إلى تهجير نصف مليون عراقي، معظمهم من الكرد الفيلية، متهما إياهم بأنهم من أصول إيرانية.
وفي عام 1979 تغير النظام السياسي في إيران، وسقط نظام الشاه القومي العنصري، وحل محله نظام جمهوري إسلامي (رسميا)، وتفاءل كثيرون من أن هذا النظام سيكون قريبا من العرب والمسلمين وسوف يشيع السلام والوئام وروح التضامن والتعاون التي يبشر بها الدين الإسلامي. لكن العكس قد حصل، فأول ما فعله النظام الإيراني الجديد هو إطلاق حملة لـ(تصدير الثورة) إلى البلدان المجاورة الآمنة المستقرة.
فشن حملة من التحريض الطائفي والديني والسياسي ضد البلدان العربية تحديدا وأولها العراق، علما أن قائد الثورة الإيرانية، روح الله الخميني، صرح في البداية أن القوة الإيرانية ليست موجهة ضد أحد.
نشوة الانتصار على نظام الشاه أصابت قادة إيران الجدد بالغرور فتوهموا بأن بإمكانهم أن يغيروا العالم. وبدلا من التركيز على إنصاف الفقراء الإيرانيين، الذين صدَّقوا بوعود الخميني لهم بالعدالة والمساواة والرخاء، بدأ النظام ينفق الأموال على تصدير الثورة ومحاربة الدول الأخرى وزعزعة استقرارها. كما ارتكب حماقات تدل على غباء سياسي فاضح لقادته، ومنها مثلا احتلاله سفارة الولايات المتحدة واحتجاز الدبلوماسيين الأمريكيين كرهائن لأكثر من سنة وشهرين.
الدبلوماسيون في أي دولة يتمتعون بحصانة دبلوماسية معترفٌ وملتزّمٌ بها دوليا، وحتى إن ارتكب الدبلوماسي جريمة قتل على سبيل المثال، فلا يحق للسلطات اعتقاله إلا بعد أن ترفع سلطات بلده الحصانة الدبلوماسية عنه. وعلى سبيل المثال، أقدم أحد الدبلوماسيين الأجانب على قتل شرطية بريطانية كانت تحرس سفارة بلده في لندن عام 1983، فطوقت الشرطة السفارة ولم تقتحمها احتراما لحرمتها الدبلوماسية، وعندما لم توافق سلطات البلد المعني على رفع الحصانة الدبلوماسية عن الدبلوماسي القاتل، طلبت بريطانيا مغادرة الدبلوماسيين أراضيها، فخرجوا جميعا من السفارة إلى المطار، وبينهم القاتل، وذهبوا إلى بلادهم ولم يتعرض لهم أحد بسوء. والدبلوماسيون هم موظفون مدنيون وبإمكان أضعف دولة في العالم أن تحتجزهم أو تقتلهم، كما فعلت حكومة طالبان بالدبلوماسيين الإيرانيين في مدينة مزار شريف الأفغانية عام 2002، فليس في هذا شجاعة ولا تحدٍ ولا انتصار، وإنما هو دليل على الهمجية والجهل بالقانون الدولي والعلاقات الدولية.
وفي سبتمبر من عام 1980، اندلعت الحرب بين العراق وإيران، وبغض النظر عمن بدأها، فهذا معروف ومثبت، ولكن إيران أصرت على مواصلتها لثماني سنوات عجاف وتسببت في قتل أكثر من مليون عراقي وإيراني وجرح وإعاقة عدد مماثل. وأثناء تلك الحرب، أدرك العراقيون، بمن فيهم بسطاء الشيعة الذين أيدوا الثورة الإيرانية في البداية، أن إيران لا يهمها العراق ولا الشيعة، وأن من يحكم إيران ليسوا رجال دين حقيقيين بل هم إيرانيون توسعيون ومتعصبون قوميا، وإلا كيف يبرر رجال الدين، أي دين، إطلاق الصواريخ على المدن الآهلة بالسكان وقتل النساء والأطفال والشيوخ، كما فعل الإيرانيون في البصرة وبغداد ومدن عراقية أخرى؟ أي دين يبيح قتل الأبرياء الآمنين في بيوتهم؟.
رفضت إيران كل الوساطات الإسلامية والدولية لإنهاء الحرب، وأصرت على مواصلتها حتى اسقاط النظام واحتلال العراق، متوهمة بأن ذلك ممكن عمليا ومتاح دوليا، لكنها قبلت أخيرا بقرار الأمم المتحدة بعد مرور أكثر من عام على صدوره، وتجرع الخميني السم كما قال في خطابه إلى الإيرانيين، وليته تجرع السم قبل ثماني سنوات من ذلك التأريخ، لكان قد حقن دماء الملايين من العراقيين والإيرانيين ووفر مليارات الدولارات من الخسائر واستثمر الوقت في البناء والإعمار بدلا من الحرب والدمار.
وبعد أن عم السلام الحدود العراقية الإيرانية بعد عام 1988 بدأ النظام الإيراني يتعاون مع النظام العراقي، الذي كان يصمه بالكفر والعمالة، بل أصبح يبيع النفط العراقي نيابة عنه في الأسواق العالمية أثناء الحصار المفروض على العراق بسبب احتلاله الكويت، مستفيدا من فرق السعر الهائل بين سعر النفط السائد في الأسواق والسعر الذي يدفعه للعراق.
كما استقبلت إيران الطائرت العراقية المدنية والحربية عشية الحرب الدولية على العراق عام 1991، حسب اتفاق سري بينها وبين النظام العراقي آنذاك، كي (تحفظها) من القصف الأمريكي، لكنها لم تُعِد تلك الطائرات حتى هذه اللحظة، على رغم مطالبة العراق بها في عهد حكومة أياد علاوي عام 2004، وكنت شخصيا ضمن الوفد العراقي المفاوض، إذ تجنب الإيرانيون التعليق على مطالبة العراق بها رغم تكرار مطالبة وزير النقل العراقي آنذاك، المرحوم لؤي العرس، بالكشف عن مصيرها.
وكلما طرح وزير النقل العراقي القضية، واجهه الإيرانيون بالصمت المطبِق، حتى طلب رئيس الوفد، برهم صالح، نائب رئيس الوزراء آنذاك، من الوزير العراقي أن يكف عن طرح المسألة.
بقي العراق على مر العصور عصيا على المطامع الإيرانية، وقد بقي سكانه متمسكين بوحدة العراق على رغم اختلافاتهم الدينية والقومية والثقافية، وظلت الثقافة العراقية هي الأقوى بين الثقافات الفرعية الأخرى، بل ازدادت رسوخا كلما تعرض العراق إلى خطر أو تهديد من إيران تحديدا. أقول هذا ولا أنكر وجود المشكلة الكردية التي ما كانت لتتفاقم لو كان الأكراد قد حصلوا على حقوقهم القومية، وكل ذلك كان بسبب تهميش حكام العراق من القوميين العرب السكان الكرد وعدم التفاهم معهم.
كما بقي العراق متماسكا حتى أيام المد القومي الناصري، الذي لاقى انتشارا واسعا بين غالبية السكان العراقيين العرب، لكن القوميين العراقيين رفضوا الاندماج مع مصر وسوريا في الجمهورية العربية المتحدة، وحتى عندما تمكنوا من السيطرة على حكم العراق كليا بقيادة عبد السلام عارف عام 1963، لم ينفذوا مشروع الوحدة الاندماجية مع الجمهورية العربية المتحدة الذي كانوا يدعون له سابقا، لأنهم أدركوا بأن العراق غير قابل للإنصهار في دولة أخرى، وهذه حقيقة تأريخية يعرفها العراقيون جميعا وآن الأوان أن تعرفها أيران وأتباعها.
لكن فرصة إيران في السيطرة على العراق سنحت بعد الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 فتغلغلت في كل مفاصل الدولة العراقية عبر الجماعات السياسية الطائفية والمليشيات المسلحة التي أسستها منذ مطلع الثمانينيات، بينما بقي الأمريكيون يتفرجون عاجزين عن صدها، بل ربما ساهموا في تسهيل هذا الغزو الإيراني للعراق عبر جهلهم بكلا البلدين.
لم تكتفِ إيران بدعم مليشيا واحدة أو اثنتين في العراق، كما فعلت في لبنان أو اليمن مثلا، بل أنشأت عشرات المليشيات وما زالت تنشئ المزيد منها، والسبب واضح لكل ذي عين وهو تفيت العراق وإبقاؤه ضعيفا وقلقا وهذا ما يحصل الآن.
لكن العراقيين لم يستكينوا لهذه النتيجة المأساوية التي انتهى إليها بلدهم أثناء سيطرة الأحزاب الموالية لإيران عليه، فهبوا في الأول من أكتوبر الماضي لاستعادة العراق من إيران ورفعوا شعارا بليغا هو (نريد وطنا)، وهذا الشعار يعني فيما يعنيه “أن بلدنا مسلوب ونريد إستعادته” والكل يعلم من الذي سلب إرادة العراق وسلط عليه عتاة المجرمين والسراق.
المحتجون يعتبرون الجماعات السياسية المهيمنة على السلطة في العراق تابعة لإيران وأنها تحكم العراق لصالح إيران، وهم لم يبتعدوا كثيرا عن الحقيقة في تفكيرهم هذا، وليس هناك دليل أوضح من توحيد هذه الجماعات موقفها والاصطفاف وراء عادل عبد المهدي، الذي كانت تصفه بأقذع الاوصاف وتتهمته بشتى التهم، لكنه الآن أصبح منقذا لها، فإقدامه على تصفية المتظاهرين جسديا في وضح النهار يخدم مصالحها وينقذ قادتها من المحاسبة الشعبية على الجرائم والسرقات التي ارتكبوها على مدى 15 عاما.
وبدلا من أن تقوم هذه الجماعات السياسية (التي تسمى خطأً أحزابا) بتطوير العراق وإنشاء المصانع وتطوير الإنتاج وتشغيل العاطلين والإنفاق على الخدمات وتطويرها وإنشاء المساكن والمراكز الثقافية والفنية والجامعات والمدارس والمستشفيات ودعم القطاع الخاص وتعزيز الهوية الوطنية العراقية وتشجيع الناس على التمسك ببلدها، أخذت تستورد كل شيء من إيران، من الكهرباء إلى الخيار، وحولت العراق إلى سوق لتصريف المنتجات والأموال الإيرانية لمساعدة إيران اقتصاديا وتخفيف الحصار الدولي المفروض عليها. لم تكترث لمصالح العراق بل أصبح همها إنقاذ النظام الإيراني من السقوط.
لقد اتضح في الاحتجاجات الأخيرة مدى استعداد النظام الإيراني وأتباعه لارتكاب أفظع الجرائم بحق العراقيين المناهضين لنفوذه، إذ قامت المليشيات التابعة لإيران بقتل مئات المتظاهرين (الرقم الصادر عن مفوضية حقوق الإنسان في العراق هو حتى يوم أمس 351 شهيدا وأكثر من 12 الف جريح، لكن الرقم الحقيقي قد بلغ الضعف على الأغلب). وكلما أوغل أتباع إيران في دماء العراقيين، ازداد تمسك العراقيين بوطنهم وإصرارهم على استقلاله، بل إن هناك الآن دعوات لبناء جدار عريض بين إيران والعراق كي يتمكن العراقيون من الحفاظ على بلدهم من هذه الدولة الطامعة.
الاحتجاجات الأخيرة نجحت في إذكاء جذوة الهوية الوطنية العراقية وإقناع الطبقىة السياسية الفاسدة بأن العراقيين ليسوا غافلين عن جرائمها وسرقاتها وارتباطها بإيران، وأن حسابها بات وشيكا وأن إيران لن تتمكن من إنقاذها من العراقيين مهما تفانت في خدمتها. ومهما قتل مسلحو هذا النظام الخانع من المحتجين، فإن الاحتجاجات قد نجحت في تعزيز الهوية الوطنية العراقية ورفع الوعي الوطني العراقي إلى أعلى درجاته. هذا الوعي سوف يساهم في تعزيز قوة العراق واستقلاله وتماسك شعبه، وهذا من شأنه أن يكتسح النظام الحالي ويأتي بنظام جديد يليق بالعراق والعراقيين.