الحكومة المقبلة يشكلها المنتفِضون، لا المُنتَفَض عليهم
سكاي نيوز عربية 7/12/2019
ليس صحيحا أو منطقيا أن تحاول القوى السياسية العراقية الممثلة في البرلمان حاليا أن تشكل الحكومة المقبلة، بعد أن أسقط المنتفضون، يؤيدهم الشعب والمرجعية الدينية، الحكومة السابقة في احتجاجات مازالت تتواصل منذ شهرين وراح ضحيتها آلاف المحتجين بين قتيل وجريح ومختطف. أي حكومة تشكلها القوى السياسية التي شكلت الحكومات السابقة الفاشلة لن تحُلَ المشكلة ولن تكون مقبولة لدى الشارع العراقي المنتفِض، ولن تقبلها المرجعية الدينية التي دقت المسمار الأخير في نعش الحكومة السابقة بسبب فشلها وعجزها عن تلبية مطالب المحتجين وحل مشاكل البلد.
نعم، يجب أن تُشَكَّل الحكومة عبر الطرق الدستورية من حيث أن رئيس الجمهورية يكلف مرشحا جديدا لرئاسة الوزراء، وأن البرلمان يصدِّق على الحكومة الجديدة، فهذا ضروري لاكتساب الشرعية. ولكن ليس صحيحا أن تختار الكتل السياسية رئيسَ الوزراء المقبل أو أفراد حكومته أو تتدخل فيها، فالشعب، وهو مصدر السلطات، يطالب بالتغيير ويجب الإنصات له.
قد يقول قائل ولكن كيف يمكن تحديد المرشح لرئاسة الوزراء إن لم يأتِ عبر الكتل السياسية الحالية؟ الحل ليس صعبا، فهناك مواصفات للحكومة المقبلة وضعتها طبيعة الاحتجاجات وأولها ألا تتشكل من الطبقة السياسية الحالية، المتهمة بالفساد والفشل والتبعية للأجنبي وارتكاب جرائم قتل وخطف، وثانيها أن يكون أعضاؤها من المعارضين لنهج الحكومات السابقة والمنسجمين مع أهداف الاحتجاجات، أي أنهم يمثلون المنتفضين بحق ومستعدين لتصحيح الأوضاع المختلة، وثالثها أن يكونوا من أهل الخبرة والكفاءة والسجل الناصع كي يتمكنوا من تحقيق النجاح المطلوب وانتشال البلاد من حالة التدهور الحالية. هناك عشرات الشخصيات التي تنطبق عليها هذه المواصفات ويمكن طرح العديد من الأسماء في الفضاء العام كي تُناقش ثم يختار رئيس الجمهورية احدها لتشكيل الحكومة التي يجب أن يكون أعضاؤها جميعا من الخبراء المستقلين المنسجمين مع الانتفاضة.
الانقسام الحاصل بين القوى السياسية الحالية يزيد المشهد السياسي غموضا، فهناك قوى مؤيدة للاحتجاجات علنا مثل إئتلاف (النصر) بقيادة حيدر العبادي، وإلى حد ما ائتلاف (الوطنية) بقيادة أياد علاوي، وإئتلاف (سائرون) بقيادة مقتدى الصدر. لكن قوى أخرى تقف ضد الانتفاضة، كتحالف (الفتح) بقيادة هادي العامري وقيس الخزعلي وفالح الفياض، و(دولة القانون) بقيادة نوري المالكي، وأخرى تقف على التل كالقوى الكردية التي استفادت من ضعف حكومة عادل عبد المهدي وعارضت إسقاطه، بينما يتذبذب مواقف القوى الأخرى بين التأييد الرسمي والقلق من عواقب التغيير الذي سيطالها. التغيير سوف يطال الجميع دون شك، خصوصا إذا تغيرت قوانين الأحزاب والانتخابات ومفوضية الانتخابات وطرق تمويل الأحزاب.
لا توجد ساحة سياسية مشرذمة في بلد على وجه الأرض كما هي حال الساحة العراقية منذ عام 2003. فهناك عشرات الجماعات السياسية والمليشيات المسلحة ومئات الزعماء وآلاف المرشحين للبرلمان ومجالس المحافظات. وفي كل انتخابات، يرشح ما لا يقل عن عشرة آلاف شخص لشغل مقاعد البرلمان البالغة 329 مقعدا (منها 9 للمكونات الصغيرة وربع المتبقي للنساء، تُختار عبر حسابات لا تأخذ بنظر الاعتبار عدد الأصوات). وبين كل هذه الجماعات المتنافسة، لا توجد جماعة واحدة لديها مشروع وطني يهدف للنهوض بالدولة وتطوير حياة الناس وربط العراق بالعالم المتقدم.
الجماعات السياسية كلها تتمحور حول عائلات دينية-سياسية لا هم لها سوى ترسيخ سلطة العائلة وزيادة نفوذها ومالها عبر المحاصصة حول المناصب، حتى أصغرِها، وتقاسم المال العام فيما بينها. بل حتى الجماعات التي تسمي أنفسها أحزابا، قد تحول أعضاؤها إلى مجرد أتباع مطيعين منفذين لقادتها، ولا يهم إن كان القائد فاسدا، فلا أحد يحاسبه أو يلومه مازال يأتي بالمناصب والأموال والنفوذ لأتباعه. بل يتوقع منه أتباعُه أن يكون فاسدا كي لا تبقى جماعته فقيرة ومهمشة بين الجماعات الأخرى المتنافسة. ومن المشاكل التي واجهها رئيس الوزراء السابق حيدر العبادي هي أنه لم يراعِ أتباعه، ولم يوزع الهبات والمناصب عليهم!
والأسوأ من كل ما سبق هو التستر خلف الدين والقيم الدينية، ما زعزع ثقة كثيرين بالدين وجعل أكثر الناس تشكك بكل من يتحدث بالدين لأنها أصبحت مقتنعة بأن التظاهر بالدين يخفي وراءه أمرا مريبا لأن أفعال هؤلاء تناقض التعاليم الدينية. فرفع المحتجون منذ عام 2015 شعارا اصبح الجميع يرددونه في كل أنحاء العراق دون حرج وهو (باسم الدين بـاﮔونا الحرامية)!
السؤال الذي يدور بين العراقيين دون أن يحصلوا على إجابة له هو لماذا لم يبرز حزب أو جماعة سياسية تسعى إلى النهوض بالبلد وتطوير حياة الناس، الذين امتدت معاناتهم عقودا بسبب الدكتاتورية والحروب والحصار الدولي؟ لماذا بزَّت هذه الجماعات السياسية-الدينية، وقادتُها، حتى أفسد الحكام وأكثرهم تعسفا في التأريخ؟ بل لماذا عارضت النظام السابق ابتداءً، إن كانت تعتزم أن تتفوق عليه بالظلم والفساد والنهب والخطف والقتل؟ ولماذا لم يكن لديها برنامج بديل للنهوض بالدولة وخدمة الناس؟
منذ عام 2011 والشعب العراقي يجوب الساحات والشوارع محتجا على الأداء البائس لهذه الجماعات، لكنها لم تغير من نهجها، بل تمادت في فسادها وأخذت تزوِّر الانتخابات لصالحها، فحافظكل منها على حصته في البرلمان في كل (انتخابات) أجريت حتى الآن، مع فارق ضيل جدا في عدد المقاعد، ما دفع الناس إلى أن تهب منددة بها ورافضة لها. بل وحتى الذين ترفضهم الناس في الانتخابات المزورة، يُمنحون مناصب تنفيذية بالتعيين، ولا يستقيلون أو يقالون عند افتضاح فسادهم وسرقاتهم.
وبعد أن أجبر المحتجون بدمائهم وأرواحهم وصمودهم وتضحياتهم، حكومة عبد المهدي على الاستقالة، راحت الكتل السياسية التي وصلت إلى البرلمان عبر التزوير ونتيجة لمقاطعة الشعب الانتخابات الماضية، تتفاوض في ما بينها كي تأتي ببديل من بين صفوفها لخلافته، الأمر الذي يناقض تماما هدف الاحتجاجات ابتداءً، ألا وهو إصلاح النظام السياسي سلميا. والأسوأ من هذا أنها استضافت قائد (فيلق القدس) الإيراني، الجنرال قاسم سليماني، (للتشاور) معه حول تشكيل الحكومة المقبلة!
إن الذي أسقط حكومة عادل عبد المهدي، المدعومة إيرانيا، هو قوى الشعب المناهضة للفساد والجريمة المنظمة والتبعية للأجنبي، ومن الأفضل للعراق أن يكون لهذه القوى المنتفضة دور فاعل في تشكيل الحكومة المقبلة، وألا تتدخل إيران من قريب أو بعيد في تشكيلها. على القوى التي تشغل مقاعد البرلمان حاليا، والتي تعلم جيدا بأنها لا تمثل العراقيين، بدليل الشعبية الهائلة التي يتمتع بها المحتجون، ألا تحاول القفز على منجز الانتفاضة والإتيان بشخصيات ترتضيها وتأتمر بأمرها، لأن ذلك لن يحل المشكلة بل سيعقدها أكثر، وسوف تعود الاضطرابات ويتعطل البلد وتتدهور الخدمات والأمن وسوف تخسر المزيد من مواقعها.
يجب أن تعترف القوى السياسية الحالية بأن أي حكومة تشكلها ستكون مرفوضة شعبيا وسوف تثير غضب الناس ولن تحظى باحترامها، لذلك عليها أن تتنازل لقوى الشعب وتقبل بحكومة تمثل القوى المنتفضة وتنسجم معها. الطبقة السياسية ماتزال تسيطر على البرلمان، حاليا على الأقل، حتى تُعدَّل القوانين الحالية وتُجرى انتخابات جديدة وفقا لها، وعندها سيكون القرار للناخب الحر. فإن كانت تؤمن بالديمقراطية، وهذا مشكوك فيه، فعليها أن تقبل بأنها خسرت المعركة، وعليها أن تحسن من أدائها وتغير أفكارها كي تحظى بقبول الناس مستقبلا. الديمقراطية تعطي دائما فرصة للخاسر أن ينجح، لكنها لا تسمح للفاشل أن يبقى في السلطة لأنها بطبيعتها تخدم غالبية الناس وتسير وفق آرائهم ومزاجاتهم.
أول قانون يجب أن يُعدَّل هو قانون الأحزاب الذي يجب أن يحظر أي حزب يتشكل على أساس ديني أو طائفي أو قومي أو مناطقي. عندها ستكون لدينا أحزاب سياسية حقيقية لا تتحدث إلا بالسياسة والاقتصاد وخدمة الناس ولا تبحث إلا في إيجاد الحلول لمشاكل البلد الحقيقية وكيفية تطوير حياة الناس. أي انتخابات تُجرى وفق قوانين جديد للأحزاب والانتخابات والإدارة الانتخابية، وتشرف عليها مفوضية مستقلة، برقابة دولية، سوف تأتي بطبقة سياسية جديدة تمثل الشعب العراقي بحق. ولكن يجب الحذر من أن هذه العملية تستغرق وقتا فلا يمكن المحتجين أن يحققوا الفوز الذي يطمحون إليه إلا بعد أن ينظِّموا انفسهم ويؤسسوا أحزابا جديدة تنظم عملهم، ويصقلوا مواهبهم السياسية ويختاروا قادتهم بعناية ويضعوا برامج سياسية واقتصادية مدروسة ومقنعة كي يتمكنوا حقا من إيجاد البديل المناسب وقيادة البلد نحو النجاح والتقدم.
عملية إصلاح النظام تحتاج إلى فترة تمتد بين سنة وثلاث سنوات كي تكون الإصلاحات راسخة وكي يتأهب القادة الجدد لأداء دورهم وينجحوا فيه. لا شك أن الجماعات السياسية الحالية سوف تسعى إلى إفشال دور المنتفضين، إن لم يكونوا مستعدين للاضطلاع بدور سياسي رائد، لذلك يجب عليهم أن يستعدوا للمرحلة المقبلة وينظموا أنفسهم ويؤسسوا أحزابا عصرية ديمقراطية وينتظموا فيها، كي يقتنع الناخب العراقي بأنهم يشكلون بديلا أفضل ويصوت لهم. وعليهم أيضا أن يتواصلوا مع العراقيين في الخارج الذين يوصلون صوتهم إلى المنظمات الدولية، فبدون إطلاع العالم على مشاكل العراق والجرائم التي ترتكب داخله، سيكون صعبا إلحاق الهزيمة بالجماعات المسلحة التي لا تتردد في قتل الناس الأبرياء وتنفيذ أجندات دول معادية للعراق.
حميد الكفائي