الديمقراطية إذ تخرِج كائنات غريبة من الكهوف
سكاي نيوز عربية 26/1/2020
لم نكن نتوقع نحن دعاة الحرية والديمقراطية أن التطبيق العملي لهذين المفهومين سوف يتكشف عن مصائب وفضائح كالتي نراها اليوم في العراق. لقد أظهرت الديمقراطية والحرية أقواما غرباء عن العالم المعاصر كليا، وأخرجتهم من كهوفهم التي يقطنونها منذ عصور ما قبل التأريخ.
هؤلاء الذين اصبح بعضُهم زعماء وقادة سياسيين ونواب ووزراء أخذوا يتصرفون كصبيان حمقى متوهمين بأن العالم من حولهم سوف ينصاع لأوهامهم وأنه سوف (يرضخ) لمطالبهم ورغباتهم ونزواتهم العدوانية الشريرة، وأنهم سوف (يهزِمون) أقوى قوة في العالم لأنهم (على حق) ومعارضيهم على باطل.
أحدهم، وكان رئيسا لأكبر كتلة برلمانية، قد تنبأ، لا فض فوه ولا عدمه حاسدوه، بأن المهدي المنتظر سوف يحارب الأكراد عندما يظهر.
ولم يبين فضيلته سبب عداء المهدي للأكراد وهم من أوائل المسلمين! والغريب أن الرجل كان مرشحا برلمانيا عن احدى المدن الكردية لكنه لم يفُز، وربما يفسِر عدمُ فوزِه غضبَه هذا من الأكراد.
زعيم آخر، وهو رئيس كتلة أيضا، فهؤلاء كلهم ولدوا كي يكونوا زعماء، قال إن الأمريكيين لديهم معلومات كاملة عن الامام المهدي وما ينقصهم هو صورته فقط.
كما أفاض، لا فض فوه، بأن نهر الفرات يجري في مصر وأن شرب مياهه يُذهِب الغيرة.
زعيم آخر، تولى منصبا رفيعا، سرد لمستمعيه ذات يوم أن (جذع نخلة) وُجِد يئن ويبكي بعد أن أُخرِجَ من المسجد.
بينما دأَبَ زعيم آخر، تولى منصبا رفيعا أيضا، على الهذيان بكلام غير مفهوم متوهما بأن الناس سوف تنبهر به لفرط عدم ادراكِها معناه، ومن كلامه الذي فهمه الناس أنه تمنى (الموفقية) لأحد الموتى.
لم يطلع هؤلاء على السياسة والعلاقات الدولية وكيف تدار الدولة الحديثة وكيف يتصرف رجال الدولة الحكماء وكيف يستثمرون المواقف والظروف المختلفة لصالح بلدانهم وشعوبهم، ولم يقرأوا عن تجارب البلدان الأخرى وكيف أنها تمكنت من تحقيق التقدم خلال فترات قصيرة، بل وكيف تعثر التقدم في بلدان أخرى ولماذا حصل ذلك. مازالوا يعيشون في التأريخ القديم بل ويتمثلون حياة القدماء وتسمعهم دائما يستعينون بأمثلة من الماضي السحيق ويقارنون بين أحداث متخيلة رواها مؤرخون والأحداث الحالية ويعتبرون ما قيل أو مورس قديما المثال الذي على الآخرين اتِّباعُه لأنه صحيح لا يأتيه الباطل بين يديه ولا من خلفه.
هؤلاء وأمثالهم لن يقودوا العراقيين إلى خير، حتى وإن صدقت نواياهم، لأنهم لا يفهمون العالم على حقيقته وكان عليهم أن يصطفوا خلف آخرين بدلا من التصدي للقيادة بأنفسهم. كثيرون منهم وجدوا أنفسهم في الواجهة بسبب تزوير الانتخابات وكذلك بسبب غياب البديل، فالأحزاب العابرة للطوائف والقوميات والمناطق ضعيفة، وقادتها لا يمتلكون مشاريع وطنية بل يبحثون عن مكاسب شخصية وعائلية.
لا عجب، إذن، في أن الشعب العراقي ثار على هذه الكائنات الغريبة عن عالمنا وحياتنا، فهي لا تمتلك الحد الأدنى من العقلانية والتفكير السليم. لقد خَبَرهم العراقيون على مدى 17 عاما وعرفوا أفكارهم البدائية وأدركوا بأنهم يسيرون بالعراق نحو الهاوية، خصوصا وأنهم لا يفرقون بين الدولة العراقية ذات السيادة، الراسخة، ثقافيا وتأريخيا وجغرافيا واقتصاديا، ودولة أخرى يوالونها لأسباب أيديولوجية بالية، لا يشاركهم إياها إلا قلة قليلة من الناس المغرر بهم. والأخطر من كل هذا أنهم يريدون تسخير موقعِ الدولة العراقية ومواردِها لخدمة قضايا تتعلق بخصومات قادة دولتِهم (الفاضلة) تلك مع دول العالم التي يحتاج العراق لأن يقيم معها علاقات مثمرة.
يتوهم هؤلاء بأنهم أقوياء لمجرد أنهم يحملون السلاح، ويظنون بأن قتلهم ستمئة شاب من خيرة العراقيين خلال أربعة أشهر، سوف يمكنهم من البقاء في قيادة العراق والتحكمِ به وسرقةِ أموالِه وتسخيرِ مقدراتِه لصالحِ دولتِهم المقدسة. كما يتوهمون بأن بإمكانِهم أن يهزموا أقوى دولة في العالم كالولايات المتحدة و(يثأروا) لقتلها الجنرال قاسم سليماني، الذي يبدو أنهم اصبحوا يتامى بعده.
احد هؤلاء الغاضبين لمقتل سليماني (والمطالبين بالثأر من أمريكا) كان وزيرا في احدى الحكومات التي مكّنتها أمريكا من الحكم، وقد امتدحه كثيرون عندما استقال من منصبه لأنه فشل في إدارة الوزارة التي تولاها، لكن الأزمة الحالية كشفته على حقيقته وأظهرت عدم أهليته لأي منصب لأنه لا يفهم شيئا في السياسة أو الإدارة أو العلاقات الدولية. هذا (السياسي) أخذ يهدد مستشاري الرئيس برهم صالح (الشيعة) إنْ لم يستقيلوا احتجاجا على (مصافحته) الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، أثناء لقائهما في دافوس.
وقد استقال احد المستشارين فعلا استجابة لهذا التهديد. هذا الوزير والنائب والقائد المليشياوي لا تهمه مصلحة العراق ومستقبله على ما يبدو، وكل الذي يهمه هو إرضاء إيران التي بدأت تستخدم أذرعَها المسلحة في الدول الأخرى لمحاربة الولايات المتحدة وحلفائها، بينما تمتنع عن القيام بأي عمل مباشر لأنها تعرف عواقبَه. إيران تضغط على الدول الأخرى عبر وكلائها في العراق ولبنان واليمن، وهؤلاء يطيعون أوامرَها رغم علمهم بأنها تؤدي إلى تدمير بلدانهم.
يذكِّرني موقف الجمهورية الإسلامية (المباركة) وأتباعِها بما كان يفعله بعض رجال العشائر المنعزلين عن العالم عندما كانوا يشنون الهجمات على قطارات المسافرين في كل مرة يغضبون فيها من الحكومة، لأي سبب كان. وكان هؤلاء يطلقون النار على القطار من موقع بعيد عن قرى سكناهم، إذ كانوا يختارون قرى تسكنها عشائر أخرى يناهضونها، كي يوهموا الحكومة بأن ترد على مصدر الخطر بالهجوم على سكان تلك المناطق.
كانوا يظنون بأنهم، بتفكيرهم البدائي هذا، وقدراتهم المتواضعة، قادرون على إلحاق الهزيمة بحكومة تمتلك جيشا وأجهزة شرطة وأمن واستخبارات ومخابرات متمرسة، وجهازَ خدمة مدنية ذا خبرة، بالإضافة إلى الأموال وملايين المواطنين المتعلمين والملتزمين بالقانون.
بعض (السياسيين) العراقيين المستائين من الولايات المتحدة، بسبب خلافها مع إيران، يتوهمون بأنهم قادرون على التأثير على السياسة الأمريكية عبر ضرب سفارتها بصاروخ يصيب جدارها، أو يقع على سكّان المنازل الآمنين في مناطق أخرى، أو عبر اطلاق النار على معسكرات عراقية تستضيف مستشارين أو قوات أمريكية جاءت لمساعدة العراق بطلب من الحكومة العراقية، أو قتل واختطاف عراقيين يختلفون معهم في الرأي حول إدارة البلاد أو العلاقة مع دول العالم. يعتبر هؤلاء مهاجمة السفارات وخطف النساء وقتل المتظاهرين بطولة لأن تفكيرهم قبلي طائفي بدائي، لا يستوعب آليات وسلوك الدولة الحديثة، فهم يتوهمون بأن العداء للدول الأخرى سيعود عليهم بمنافع، وأنه يجعلها (ترضخ) لنزواتهم وأهوائهم. وأن هذا العداء سوف يكسبهم (هيبة وقوة تحسب لهما دول العالم ألف حساب).
وجود أمثال هؤلاء البدائيين خطر كبير على الدولة الحديثة، لذلك يجب أن ينتبه العقلاء في العراق، وهم الغالبية، لهذه الظاهرة الخطيرة التي تعصف بالبلد الآن. كما يجب أن تنتبه الدول الأخرى لأخطارهم لأن الضرر قد يطالها أيضا. المرجعيات الدينية المسؤولة مطالبة بأن تمنع اقحام الدين بالسياسة، فهذا هو مجال تخصصها، وهي وحدها تمثل السلطة الدينية، ولا يمكن أن يعتبر هذا تدخلا في الشؤون السياسية بل هو حماية للدين من عبث العابثين. إن تذرع هؤلاء بتبريرات دينية لأفعالهم المشينة وجرائمهم الشنيعة بحق الناس، قد ألحق ضررا كبيرا بالدين وبسلطة المرجعيات الدينية المعنوية وهيبتها. لذلك فإن تجاهل هذا الأمر سوف يفاقم المشكلة.
كما إن على العراقيين من الطوائف والقوميات الأخرى ألا يعتبروا مواجهة المتخلفين من واجبات السكان الشيعة وحدِهم، فالعراق هو بلدُهم أيضا، وعلى المنتسبين للطوائف كافة، بغض النظر عن نسبتها إلى عدد السكان، أن يحرصوا عليه ويحذروا من المخاطر المحدقة به ويشاركوا في إدارته. إن الجماعاتِ السياسيةَ الحالية ومليشياتِها المسلحة لا تمثل الشيعة من قريب أو بعيد، بل يمكن الجزم بأن الشيعة هم أكثر المتضررين من سلوكها وأفعالها، ولا ننسى أن هذه الجماعات انقلبت على جمهورها الذي أوصلها إلى السلطة، وبدأت تقتل من يختلفون مع قادتها في الرأي.
الخير والنفع والتقدم لا تأتي إلا بالعقلانية والتفكير السليم والابداع والعمل المثمر واكتساب الخبرة ووضع الشخص المناسب في المكان المناسب، وعبر التعاون مع الدول الأخرى، خصوصا العظمى منها، كالولايات المتحدة ودول أوروبا الغربية واليابان، التي يمكنها أن تقدم المساعدة السياسية والعسكرية والاقتصادية والتقنية للدول النامية، وعبر البحث عن المجالات التي يمكن بلداننا أن تتعاون فيها مع الدول الأخرى لمصلحة الجميع. لا يمكن أي دولة أن تتقدم إن لم تعمل على ترسيخ الاستقرار، وهذا يتطلب اتّباع الأساليب الحديثة في الإدارة وبسط الأمن وصيانة الحريات العامة وإلغاء التمييز بين الناس وفرض القانون على الجميع.
الأحزاب الدينية الموالية لإيران أخذت فرصتها في الحكم وأدارت البلد لخمسة عشر عاما، وقد رأى العراقيون ما فعلته من خراب وتدهور على الصعد كافة، وهي لم تتعلم من تجربتها هذه بل ظلت أسيرة لأيديولوجيتها البالية، وازدادت تبعيتها لإيران على حساب العراق، وهذا ما لن يسمح به العراقيون. إن قتل الشبان المعارضين لنهجها، غيلة وغدرا، لن يحل مشكلة هذه الأحزاب المستعصية. فبالإضافة إلى كونه فعلا إجراميا مدانا، قانونيا ودينيا وأخلاقيا، فإنه فضح خطَطَها الشريرة وحجم استعدادها لارتكاب أفظع الجرائم من أجل البقاء في السلطة. ولكن، في عصر العولمة ووالتعاون والتكامل الدولي، لم تعد هذه الأساليب الإجرامية مجديةً، بل سوف ترتد على فاعليها سريعا وتمحِقُهم من الوجود مثلما حصل لطالبان والقاعدة وداعش.
حميد الكفائي