الفرق بين عراق إيران وعراق العراقيين؟
سكاي نيوز عربية 23/2/2020
الدعاية الإيرانية المحمومة تسعى لإقناع العراقيين بأنه لولا إيران لما كان هناك عراق، وأن إيران خامنئي هي التي دافعت عن العراق ضد داعش وأنه لولا هذا (الدفاع) الإيراني لكان العراق الآن قد سقط تحت سيطرة داعش، وأن قاسم سليماني وإيران قد حميا (أعراض) العراقيين من داعش، لذلك وجب على العراقيين أن يشعروا بالامتنان لإيران إلى الأبد على هذا الفضل الذي أسبغته إيران عليهم فلولاها لما كانوا. والمزعج في الأمر أن أبواقا (عراقية) تزعق ليل نهار بهذه الأكاذيب وتريد من العراقيين أن يصدقوا بها كي يتقبلوا النفوذ الإيراني المرفوض شعبيا ودوليا في العراق.
تريد هذه الأبواق من العراقيين أن يصدقوا بأنهم عاجزون عن الدفاع عن بلدهم، وأنهم لا يستطيعون محاربة الإرهاب، وهم الذين حاربوه بشراسة وقدموا 40 ألف شهيد في حرب السنوات الثلاث ضد داعش وحدها.
عالم الاجتماع العراقي الراحل د. علي الوردي
كما يُراد للعراقيين أن يصدقوا بأن جيشهم قد انهار كليا في حزيران/يونيو عام 2014، وأن إيران وحدها هي التي دافعت عنهم وحمتهم من داعش ولم يكن هناك أحد غير إيران في الساحة، فلا التحالف الدولي كان موجودا، يوفر غطاءً جويا ومعلوماتٍ استخباريةً مطلوبة واستشارات عسكرية قيمة، وأسلحةً متطورة ساهمت في حسم المعركة لصالح العراق، ولا ملايين العراقيين الذين تطوعوا للدفاع عن بلدهم في صفوف الجيش والشرطة والحشد، قد هبوا لحماية العراق، وإنقاذه من براثن الجماعات الإرهابية، ولا مليارات الدولارات العراقية التي أنفقت على التسلح والتدريب والرواتب في زمن الشح وانخفاض أسعار النفط. نعم انهارت بعض قطعات الجيش والأسباب معروفة للجميع، وسوف يُحاسَب المسؤولون عن هذا الانهيار، إن عاجلا أو آجلا، لأنهم هم المسؤولون عن الهزيمة، لكن جيش العراق لم ينهَر بل صمد وحارب وضحّى وانتصر. وليس مفاجئا للعراقيين أن المسؤولين عن الهزيمة أمام داعش هم الذين يطبِّلون لإيران وينتقصون من جهد العراقيين في تحقيق النصر.
يريد لنا الإيرانيون أن نصدق أن “لا فتى إلا قاسم سليماني ولا سيف إلا سيف علي خامنئي”، وأننا قوم لا هوية وطنية لنا ولا ننتمي إلى أعرق الحضارات التي سُن فيها أول قانون وخُط فيها أول حرف، وتأسس فيها أول العلوم وشيدت فيها إحدى عجائب الدنيا السبع. بل إن أتباع إيران في العراق تجرأوا مرارا واقترحوا إلغاء اسم بابل العظيمة واستبداله بـ(مدينة الإمام الحسن)! نعم يُراد استغلالُ أسماء الأئمة والأولياء والصالحين لإلغاء حضارة العراق وتأريخه، وهذا المسعى الإيراني ليس جديدا، فقد سعى الإيرانيون دائما إلى محاربتنا بمقدساتنا وتشويه تأريخنا وتلفيق قصص مختلقة كي تترسخ في أذهان الناس وتحُل محلَ القصص الحقيقية.
وعلى الرغم من الخطاب الديني الذي يمارسه الإيرانيون بشكل محموم منذ 41 عاما، فإن خطاب الاستعلاء القومي الفارسي مازال سائدا لكنه أصبح مغلفا بالدين. الحقيقة هي أن التفكير الإيراني لم يتغير على مر العصور، فالإيرانيون مازالوا يعانون من (جُرح) سقوط الإمبراطورية الفارسية على أيدي العرب في القرن السابع الميلادي، ثم دخولهم في الإسلام، مضطرين على ما يبدو، لذلك فإنهم يحاولون منذ ذلك الوقت الانتقاص من جيرانهم العرب، والاستعلاء على الأقوام الأخرى من حولِهم، خصوصا تلك التي اعتنقت الإسلام، في مسعى كلّفهم غاليا، وسيبقى يكلفهم المزيد، إن هم أصروا عليه. قادة إيران لم يقرأوا التأريخ جيدا، فكل إمبراطورية أو دولة، مهما عَظُمَت واتسعت، فإنها لابد أن تتغير، متكيفةً مع الظروف المحيطة بها، أو تبلغ نهايتها المحتومة، فهذه هي سنة التأريخ.
بريطانيا التي كانت يوما “الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس”، أصبحت الآن دولة صغيرة يخشى سكانُها الذوبان في أوروبا، فقررت حكومتهم أخيرا مغادرة الاتحاد الاوروبي. والبرتغال التي كانت يوما إمبراطورية كبيرة، حكمت أجزاءً من أوروبا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية، وتبنت لغتها الكثير من الدول، بينها البرازيل، أكبر دولة في أمريكا الجنوبية، أصبحت الآن دولة صغيرة تعتمد على السياحة الأوروبية وتتلقى المساعدات من الاتحاد الأوروبي. هنغاريا التي كانت يوما مركزا للإمبراطورية الهنغارية النمساوية، أصبحت اليوم دولة عادية، انضمت إلى الاتحاد الأوروبي كي تنهض اقتصاديا وعلميا. تركيا، التي كانت من أكبر الامبراطوريات في العالم، قبلت الآن بأنها لم تعد إمبراطورية، بل دولة تسعى لأن تكون قوة اقتصادية إقليمية، وتحاول منذ سنين أن تنضم للاتحاد الأوروبي كي تحسِّن من فرص تقدمها.
العراق الذي تريده إيران ليس كالعراق الذي يريده العراقيون. إيران تريد عراقا يسير في فلك قادتها ويتبع أيديولوجيتها ويتحول أبناؤه تابعين لها، سائرين وفق (هدي) نظامِها السياسي و(إرشادات) الولي الفقيه ونصائحه وفتاواه. إيران تريد عراقا يشاركها شظف العيش، ويخفف عنها العقوبات التي جلبتها سياسات قادتها الطائشة ويقف سدا منيعا ضد أعدائها المتزايدين في العالم. تريد عراقا يحارب الولايات المتحدة والدول العربية وباقي دول العالم نيابة عنها، وعراقا منسجما مع العُقَد الكثيرة التي يعاني منها قادتُها. بل إن إيران لا تريد حتى رجال دين مستقلين عنها في العراق، لذلك ترعى رجال دين يسيرون وفق سياساتها ويروجون للإسلام الإيراني الذي لا يمت بصلة للإسلام الذي نعرفه، بل إن لديها (مراجع) جاهزين دائما للإفتاء بناء على طلب المرشد (الأعلى) والولي الفقيه.
لقد أفتى أحد هؤلاء (المراجع) عام 2005 بحرمة التصويت للعلمانيين في الانتخابات العراقية! بينما أفتى عام 2019 بمحاربة القوات الأجنبية في العراق، التي جاءت بطلب من الحكومة العراقية لمحاربة الجماعات الإرهابية. الطريف أن حزبا عراقيا اختاره فقيها له في الثمانينيات، فأفتى بحل الحزب وذوبانه في الجمهورية الإسلامية! والغريب أن هذا (المرجع) الذي نشأ في العراق لم يفتِ يوما في أي قضية غير عراقية. معنى هذا أنه مرجع ذو مَهَمَّة خاصة، وهي الإفتاء بما يتلاءم مع مزاج الولي الفقيه (ونائب المهدي المنتظر) علي خامنئي.
العراق الذي يريده العراقيون هو العراق الحضاري الذي تحكمه دولة عصرية ديمقراطية تساوي بين مواطنيها ولا تصنفهم دينيا أو مذهبيا أو عرقيا أو مناطقيا، العراق المتصالح مع العالم أجمع والمتعاون مع الدول التي يمكنها أن تساعده على النهوض والتطور ورفع المستوى المعاشي والخدمي لسكانه. العراق الذي يرفل مفكروه ومثقفوه وأكاديميوه ومهنيوه ومتعلموه وعماله وفلاحوه بحقوق الإنسان والحرية والأمن والرفاه. العراق الذي يحتضن العلماء والمفكرين والفنانين والمبدعين والمثقفين والموسيقيين والشعراء والمتميزين. إنه عراق طه باقر وعلي الوردي وكوركيس عواد ورفعة الجادرجي ومحمد مكية وفالح عبد الجبار ومهدي المخزومي وانستاس الكرملي ومصطفى جواد ولمياء الكيلاني وحسام الآلوسي وعمو بابا مؤيد البدري وصالح الكويتي وطالب القرةغلي وسيف الدين ولائي وناظم الغزالي وسليمة مراد وعفيفة سكندر وفؤاد سالم وكاظم الساهر وسيتا هاكوبيان وحسين نعمة وأمل خضير وسليم البصري ومحمد حسين عبد الرحيم وسامي قفطان. عراق بدر شاكر السياب ونازك الملائكة وعاتكة الخزرجي ومحمد مهدي الجواهري ولميعة عباس عمارة وفهمي المدرس ومصطفى جمال الدين ومحمد سعيد الحبوبي وعبد المحسن الكاظمي وعلي الشوك وعبد الخالق الركابي وفؤاد التكرلي ومحمود البريكان وأحمد سعداوي.
العالم العراقي الراحل طه باقر مثل هذا العراق لا تريده إيران، بل سعت بقوة ومنذ عام 2003 لتجريده من كل مزاياه الحضارية والمدنية وجعله مناهضا لهويته الثقافية العربية، بل وحتى هويته المتنوعة التي تعترف بالكرد والتركمان والمسيحيين والصابئة شركاء في الوطن، متساوين في الحقوق والواجبات. لقد سعى أتباع إيران إلى تغييب كل مفكر وأكاديمي وعالم وضابط شجاع ومجرب وصحفي محترف يرفض التطبيل والتزوير ومثقف حر يصدح برأيه الوطني المطالب بدولة مدنية والمعارض لولاية الفقيه. قتلوا كامل شياع وهادي المهدي وعلاء مشذوب وأحمد عبد الصمد ورفيف الياسري وسعاد العلي وتارة فارس. قتل مرتزقة إيران حتى الآن الآلاف من خيرة العراقيين والعراقيات، غدرا وغيلة، وكل ذلك باسم الدين والمذهب الذي لا يمتون إليه بصلة. فلا يوجد مذهب ديني يجيز قتل الأبرياء وتغييب الرأي الآخر بالقوة.
نعم خسر العراق مئات الآلاف من خيرة أبنائه بسبب حروب إيران وأيديلوجيتها العدوانية، لكنه لم يخسر هويته وتراثه وحضارته التي يريد النظام الإيراني وأتباعه تجريده منها، ولكن هيهات. فشباب العراق الآن يملأون الساحات في كل مدن العراق مطالبين باستعادة الوطن العراقي الذي فقدوه، رفعوا شعار “نريد وطنا” لأنهم شعروا بأن وطنهم يُسلَب منهم. الولايات المتحدة، بقصد أو دونه، سهلت مهمة إيران في العراق فسمحت لمليشياتها وعملائها بالسيطرة على مقدرات البلد، وهي اليوم، إلى جانب كل دول العالم الحر، مدعوة للوقوف مع العراقيين الساعين لاستعادة بلدهم من سيطرة إيران التي تروج للإرهاب والدكتاتورية والتعسف والتخلف.
عراق العراقيين هو الذي سيسود في النهاية لأنه خيار الشعب العراقي والهوية الراسخة للعراقيين، أما عراق إيران المُتخيَّل فغير قابل للحياة، لأنه عليل وكسيح ومفروض بالقوة والدّجل والخداع، ولأنه ليس أصيلا بل غريب، ثقافيا وسياسيا واجتماعيا.
حميد الكفائي