ازدواجية الجنسية والانتماء الوطني
سكاي نيوز عربية: الأول من آذار 2020
الجنسية المكتسبة ظاهرة جديدة نسبيا وهي مرتبطة بالعصر الحديث وحقوق الإنسان والشركات المتعددة الجنسيات والعولمة التي تتطلب الهجرة والانتقال من بلد لآخر، لذلك أجازتها قوانين العديد من دول العالم بعد أن أصبحت أمرا ضروريا، وثيق الارتباط بطبيعة الاقتصاد الحديث والقانون الدولي ومواثيق حقوق الإنسان والقوانين الوطنية للدول المتقدمة.
وقد استفادت دول كثيرة من هذه الظاهرة، فالدول الغربية الساعية حثيثا إلى التطور وخدمة شعوبها، استقطبت أصحاب الكفاءات والأيدي العاملة من الدول الأخرى ومنحتهم جنسياتها كي تنمّي اقتصاداتها وتعزز تماسك مجتمعاتها عبر التنوع الثقافي والتميز المهني، بينما استفادت الدول الأصلية للمهاجرين، ومعظمها فقيرة أو غير مستقرة، من التحويلات المالية والاستثمارات والخبرات الوطنية التي تعود إليها من تلك الدول وتستثمر فيها وتتواصل مع أهلها.
الهجرة تصبح ضرورية في بعض الظروف كالتعرض للاضطهاد أو خطر الإرهاب، أو عند توفر فرص عمل أفضل في بلدان أخرى، وهي توفر فرصا للمبدعين والمجتهدين كي يتميزوا وتكون لهم إسهامات علمية واقتصادية فاعلة. ومن بين المهاجرين الذين أثّروا عالميا بعد تركهم أوطانهم الأصلية، كارل ماركس، الذي انتقل إلى لندن ووضع نظرية (رأس المال) التي أحدثت تغييرا سياسيا واقتصاديا وثقافيا كبيرا على مستوى العالم، والشاعر الأمريكي توماس إليوت الذي هاجر إلى بريطانيا ليترك أثرا كبيرا على الأدب العالمي. كما تولى مهاجرون مناصب مهمة في بلدانهم الجديدة وتركوا بصمات مميزة مثل هنري كيسنجر، وزير الخارجية الأمريكي في السبعينيات.
يقدر عدد المهاجرين العرب في البلدان الأخرى بعشرات الملايين. وكان اللبنانيون والسوريون من أوائل المهاجرين إلى قارتي أمريكا الشمالية والجنوبية، وظل المهاجرون مرتبطين ببلدانهم وثقافاتهم الأصلية وبرز منهم مفكرون وشعراء كبار مثل جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وإيليا أبو ماضي وخليل مطران وأدوارد سعيد. وتشير تقديرات إلى أن عدد اللبنانيين خارج لبنان قد تجاوز خمسة عشر مليونا، وهو رقم هائل مقارنة بعدد اللبنانيين داخل لبنان. أما السوريون في الخارج فيتجاوز عددهم الستة ملايين. بينما يُقدَّر عدد الجزائريين في فرنسا وحدها بأكثر من خمسة ملايين، والمغاربة بثلاثة ملايين. وليس مستغربا أن يشكل المهاجرون المصريون العدد الأكبر، 10 ملايين، فسكّان مصر يقترب من مئة مليون.
أما المهاجرون العراقيون في دول العالم المختلفة فيقدر بين 5-6 ملايين، والعدد يواصل الارتفاع مع تزايد عدم الاستقرار، فالكثير من الكفاءات والطاقات العراقية أصبحت تسعى للهجرة طلبا للأمن والاستقرار، خصوصا بعد سيطرة المليشيات المتوحشة على البلاد، والتي بدأت تقتل وتخطف وتسرق دون وازع أو رادع. ظاهرة الهجرة من العراق حديثة نسبيا، إذ بدأت في الثمانينيات ومازالت متواصلة، وهي تحصل في أغلب الأحيان لأسباب سياسية.
يتعامل كثيرون في العراق مع قضية مزدوجي الجنسية باعتبارها مشكلة، إذ يعتقد هؤلاء، في الأوساط الشعبية والسياسية، بأن الجنسية الثانية تمنح صاحبها حصانة من المساءلة القانونية، لكن هذا مخالف للواقع، فاكتساب جنسية أخرى مسألة قانونية بحتة ولا تمنح أحدا أي حصانة، ولا تأثير لها على نزاهة الفرد أو كفاءته، ويجب ألا تثير الشكوك في إخلاصه وولائه لبلده. لكن هذه القضية تثار في أكثر الأحيان لمحاربة الخصوم ومن أجل التغطية على الفشل ونهب المال العام والمخالفات القانونية التي يمارسها الحاكمون. العراق يعاني من مشاكل عميقة وخطيرة، أهمها المليشيات التي تدعمها إيران والتي مزقت البلاد ودفعت كثيرين إلى الهجرة أو الصمت، وحمت الفاسدين والمجرمين وأبعدت المستثمرين والسياح، خصوصا مع تزايد أعمال الخطف والقتل.
كان أتباع النظام السابق أول من أثار هذه القضية، سعيا لإبعاد المعارضين لنظامهم عن السلطة، إذ كان معظم المهاجرين معارضين، وكل منتقدي النظام ومعارضيه اضطروا للهجرة. ومن الجماعات السياسية الجديدة التي وظفت هذه الفكرة سياسيا هي (حزب الفضيلة) باعتبار أن أتباعه لا يحملون جنسيات أخرى. أما باقي الجماعات السياسية، فلم توضح مواقفها، علما أن معظم أعضائها وقادتها يحملون جنسيات أجنبية أو يتمتعون بحقوق الإقامة في بلدان أخرى، والإقامة لا تقل أهمية عن الجنسية لأنها تمنح الفرد حقوقا مماثلة.
وعند كتابة الدستور العراقي عام 2005، أدرجت مادة فيه هي المادة (18-رابعا)، تمنح العراقي حق التمتع بجنسية أخرى، لكنها اشترطت أن يتخلى “من يتولى منصبا سياديا” عن أي جنسية أخرى مكتسبة. لكن هذا النص الدستوري لم يُعَزَّز بقانون يحدد بالضبط المنصب السيادي والإجراءات المحددة التي يجب على شاغله اتخاذها، ومتى يجب أن يتخلى حامل الجنسية الأخرى عن جنسيته، ما دفع الحكومات المتعاقبة لتجاهل هذا النص بسبب غياب القانون الذي ينظمه، ولم تسعَ البرلمانات المتعاقبة إلى سن مثل هذا القانون. وكان حيدر العبادي أول من اختار التخلي عن جنسيته البريطانية عام 2014 عندما أصبح رئيسا للوزراء، وتبعه في ذلك الرئيس برهم صالح عام 2018.
وبعد تغير الولاءات والاصطفافات السياسية خلال 17 عاما، عاد سياسيون وناشطون لتوظيف هذه القضية سياسيا، مع علمهم أنها تضر بمصلحة البلاد لأنها تنتقص من ملايين العراقيين الذين يمكن أن يساهموا مساهمة فعالة في بناء العراق ورفع شأنه دوليا. والمثير للسخرية أن أتباع إيران ومليشياتها، الذين يمتثلون لأوامر قادة دولة أجنبية، علنا وعلى رؤوس الأشهاد، يشنون حملة على حملة الجنسيات الغربية، خصوصا العلمانيين والمدنيين، علما أن حملة الجنسيات الغربية غير مرتبطين سياسيا بالدول التي يحملون جنسياتها ولا يعملون لصالحها، وأن اكتساب الجنسية الأخرى في البلدان الغربية حق متاح لكل المقيمين الذين أمضوا فترة معينة فيها والتزموا بالقانون ودفعوا الضرائب.
الجنسية الغربية لا تلزِم حاملها سوى بالقانون السائد. بمعنى آخر، أن اكتساب الجنسية الأجنبية دليل على حسن سلوك الشخص والتزامه بالقانون، وليس تبعيته، فمن لا يلتزم بالقانون يُحرم من هذا الامتياز بل قد تسحب منه الجنسية في أي وقت إن تورط في تزوير أو روَّجَ للكراهية والعنف، أو تواطأ مع نشاطات إرهابية.
الجنسية المكتسبة لا تقدم حصانة لحاملها، ولو كانت الحكومة العراقية جادة في ملاحقة السرّاق الذين هربوا إلى الخارج لتمكنت من جلبهم إلى العدالة كما فعلت مع عدد منهم. ليس هناك دولة في العالم تستطيع أن تحمي مواطنا إن كان قد ارتكب مخالفة قانونية في دولة أخرى. إضافة إلى ذلك فإن المتمتع بجنسيتين، تسقط حقوقُه كمواطن لدولة أخرى إن كان موجودا في البلد الذي يحمل جنسيته، ولا يحق للدولة الأخرى أن تتدخل لصالحه طالما كان موجودا في بلده. القوانين الدولية أصبحت متشددة، ويمكن ملاحقة أي شخص إن كان قد تجاوز على قانون دولة ما، بغض النظر عن جنسيته.
هناك انتفاضة شعبية عارمة في العراق دخلت الآن شهرها السادس، بسبب الفساد والفشل والظلم الذي طال ملايين العراقيين على أيدي الجماعات المسلحة الحاكمة. مع ذلك، هناك من يُقحِم مسألة ازدواجية الجنسية ويوظفُها سياسيا. بعض المنتفضين أثاروا القضية عند انتقادهم لبعض السياسيين، كونهم كانوا في الخارج ومازالت عائلاتهم تعيش هناك، بل إن بعضهم يذهب إلى العراق لتولي منصب ثم يعود بعد تخليه عن المنصب مباشرة، وهذا يضعف ارتباطهم ببلدهم ويبعدهم عن هموم أبنائه، لكن هذه الظاهرة، وإن كانت مبررة تأريخيا، بسبب اضطرار هؤلاء للهجرة، لكنها تحصل بسبب سماح الدستور بتكليف غير المنتخبين بمهام حكومية. ولو اشترط النظام السياسي، دستوريا أو عرفيا، أن يكون الوزير ورئيس الوزراء منتخبا، فعندئذ سيضطر السياسيون لأن يعيشوا بين الناس ويتعرفوا على همومهم ومشاكلهم عن قرب ويكسبوا ثقتهم وأصواتهم.
معاناة العراقيين لا تتعلق بازدواجية الجنسية، ولو استعرضنا المتجاوزين على حقوق الناس وسراق المال العام وأعضاء المليشيات الذين قتلوا المتظاهرين ومن يخالفهم في الرأي، لما وجدنا كثيرين بينهم يحملون جنسيات أخرى. مشاكل العراق تتعلق بضعف القانون ووجود جماعات مسلحة تحمي الفاسدين والمجرمين وتستفيد منهم.
الانتماء الوطني والنزاهة والكفاءة والإخلاص لا تحددها الحقوق التي يحصل عليها المرء في دولة أخرى، سواء كانت الجنسية أو الإقامة، والتي يمكن أن تساعده في أداء عمله وتسهِّل تنقله إن كان يعمل في خدمة بلده. وفي أوقات الضيق والعقوبات الدولية، كان المهاجرون خير عون لإخوانهم في الداخل فتقاسموا معهم مواردهم واستقبلوا مرضاهم وأرسلوا لهم الأموال والأجهزة والمعدات والأدوية والكتب العلمية، وعرضوا مشاكلهم ومظلوميتهم أمام المجتمع الدولي.
إن وجود ملايين المهاجرين في البلدان المتقدمة، والمؤثرة دوليا، يساهم في تغيير مواقف هذه الدول لصالح بلدانهم، خصوصا إن كانوا منظمين ومتفاعلين مع بلدانهم الأصلية، وكلنا نعرف كيف استفادت دول محددة من وجود (لوبيات) لها في أمريكا وأوروبا.
يبدو، أن في أوقات الضعف والفشل والتراجع، تختلط الأمور على كثيرين فيلجأ بعضهم إلى إثارة قضايا جانبية تفاقم الضعف والتراجع، فتبدو ألاعيب خصومهم، التي تستهدف إضعافهم، صحيحة ومقبولة.
حميد الكفائي