أما حان وقت المراجعة وتنويع مصادر الدخل؟
سكاي نيوز عربية: 5 نيسان 2020
لا شك أن فيروس كورونا سيترك تأثيراتٍ سلبيةً واسعةً النطاق على الاقتصاد العالمي، وإن كل دول العالم سوف تتضرر منه.
فالتوقف عن العمل ليوم واحد تنتج عنه أضرارٌ كبيرة، فكيف إذا كان التوقف لعدة اشهر وعلى امتداد العالم؟ التأثيرات خطيرة، بل مدمرة في الأعراف الاقتصادية، وسوف تُضعِف النمو الاقتصادي بل قد تقود إلى انكماش اقتصادي هذا العام، لكن هذه التأثيرات تتفاوت من بلد لآخر، فالبلدان التي تعتمد بقوة على الصناعة سوف تتأثر أقل من البلدان التي تعتمد بالدرجة الأولى على الخدمات والسياحة وتصدير المواد الخام.
الضرر الأكبر سوف يلحق بالبلدان الآحادية المورد، كتلك التي تعتمد في شكل أساسي على السياحة مثلا، أو حتى النفط وباقي المصادر الطبيعية والمواد الخام، بل إن أضرارها ستكون كبيرة دون شك خصوصا مع مع توقف السفر وتباطؤ الحركة وانخفاض أسعار المواد الأولية مع تراكم المخزونات الاستراتيجية العالمية.
جائحة كورونا ضربت العالم على حين غرة، فتسببت في شل حركة الاقتصاد وتكبيل الحريات الشخصية والعامة بقيود ثقيلة، وإيقاف نشاط قطاعات السياحة والرياضة والترفيه والسفر والفندقة والضيافة كليا وخلقت شحة في الكثير من المواد الضرورية.
الكثير من الأعمال والنشاطات، كالتدريس والإدارة وإجراء الأبحاث والأعمال المكتبية وإصدار الوثائق والتجارة الألكترونية لن تتأثر بالحجر المنزلي لأن معظمها يمكن أن يدار كليا عبر الفضاء السَّيَبري، وهذا يعمل بقوة ولن يتأثر بالتوقف الشامل السائد حاليا في الكثير من دول العالم، إذ يمكن المرء أن يعمل من غرفة الجلوس في منزله.
المصانع والأعمال اليدوية المتوقفة هي الأخرى يمكن أن تستأنف نشاطاتها قريبا بعد توفر موانع العدوى بشكل تجاري، مع مراعاة التباعد المكاني المطلوب بين العاملين. أما إذا توفرت أساليب الفحص اليسير للمشتبه بإصابتهم بالفيروس، أو حتى لعموم الناس، فإن هذا يُمكِّن المؤسسات والمصانع والشركات والمحال التجارية من تشخيص المصابين بسهولة، من العاملين أو الزبائن، وعزلهم عن الآخرين الذين يمكنهم عندئذ الاختلاط مع بعضهم البعض بشكل طبيعي. المشكلة في الوقت الحاضر هي أنه لا توجد إجراءات سريعة للفحص والتشخيص، فكل شخص يمكن أن يكون حاملا للفيروس، فالأعراض لا تظهر على المصاب إلا بعد عدة أيام. أما اكتشاف اللقاح، الذي يعتقد بأنه يستغرق 18 شهرا، فإنه سينهي الوباء كليا كما انتهت أوبئة خطيرة أخرى من قبله. العديد من المؤسسات العالمية، منها مؤسسة بيل غيتس الخيرية، بدأت تجاربها لإيجاد لقاح وعلاج للفيروس في أسرع وقت وهي بالتأكيد ستفلح في مساعيها لما تملكه من إمكانيات مالية واسعة وقدرات علمية متمكِنة.
الصناعات الضرورية سوف تستمر مازالت الحاجة لها قائمة والطلب عليها متواصلا، بل هناك الآن طلب أكبر على الكثير من الحاجيات واللوازم مثل مواد التنظيف والمناديل الورقية والأدوية ومواد الوقاية كالكمامات والقفازات، وأجهزة الرياضة المنزلية والمأكولات الصحية والفواكه والخضروات وباقي المواد الغذائية، المعلبة منها أو الطازجة، والكثير من البرامج والأجهزة كالكمبيوترات والتلفزيونات، التي ازدادت إليها الحاجة بعد انتقال موقع العمل إلى المنازل، ما يعني أن انتاجها سوف يتصاعد خلال في المستقبل المنظور. كما سيزداد الطلب على الكثير من مواد الترفيه والتعليم والثقافة كالأفلام والمسلسلات والكتب وسوف يزداد تصفح المواقع الاكترونية بسبب الوقت الفائض عند معظم الناس، ما سيمكن التجاري منها أن يحقق أرباحا إضافية عبر الإعلانات.
المشهد الاقتصادي العالمي سوف يتغير وسوف تبرز الكثير من النشاطات الجديدة بينما تختفي نشاطات أخرى بعد أن تتقلص أو تنتفي الحاجة لها، وسوف تفعل “اليد الخفية” فعلها في توجيه النشاطات والتفاعلات الاقتصادية، كما أشار إلى ذلك المفكر الاقتصادي البريطاني آدم سميث في كتابه الشهير “ثروة الأمم” الصادر عام 1776.
لا شك أن استهلاك النفط سيتواصل على الرغم من الانخفاض الحالي الذي نتج عن التوقف المؤقت للكثير من النشاطات، ولكن الناس لن تتخلى عن سياراتها، ولا الشركات عن مركباتها وشاحناتها، ولا المصانع عن مكائنها وأجهزتها، فهي لن تتوقف عن الإنتاج مازلت الحياة قائمة على هذا الكوكب، بل إن الكثير من محطات توليد الطاقة الكهربائية، التي تغذي عصب الاقتصاد العالمي، ستبقى تعمل بالغاز والنفط، ما يعني أن الانخفاض الحالي في أسعار النفط سيكون مؤقتا وأن الأسعار ستعاود الارتفاع قبل نهاية العام الحالي.
وتشير الوكالة الأمريكية لإدارة معلومات الطاقة (EIA) إلى أن السعر الحالي للنفط الذي تدنى إلى 37 دولارا للبرميل، بعد أن كان 64 دولارا في عام 2019، سوف يرتفع إلى 42 دولارا بحلول نهاية 2020 ثم إلى 55 دولارا في 2021، أي أنه لن يعود إلى مستوى أسعار 2019 قبل حلول عام 2022. كما تتوقع الوكالة أن ترتفع أسعار الغاز مع تناقص الخزين الاستراتيجي العالمي بحلول فصل الشتاء المقبل.
وتعتبر هذه التوقعات معقولة حاليا ومبنية على أسس صحيحة، لكن الأسعار قد ترتفع بوتيرة أعلى من التوقعات، إن توصل العلماء إلى حل سريع لمشكلة فيروس كورونا، بحيث يمكن إيقاف انتقال العدوى، كأن يتمكنوا من إجراء الفحص السريع والدقيق لحاملي الفيروس، أو على الأقل توفير لوازم الوقاية من الفيروس، كي تتمكن الناس من العودة إلى أعمالها مبكرا، وممارست نشاطاتها العادية. لكن الحياة الاقتصادية ستعود إلى النشاط تدريجيا حتى قبل التوصل إلى انفراج تام للأزمة بإيجاد علاج ولقاح لهذا الفيروس الخطير، فهناك العديد من السبل التي نصح بها الأطباء لتجنب العدوى، كما أن التوقف التام الحالي ليس حلا دائميا، بل يهدف إلى إعاقة الانتشار السريع للفيروس وبالتحديد كسر حلقة الحضانة كي ينحسر تدريجيا.
تحتاج بلداننا إلى مراكز دراسات متمرسة تستشرف المستقبل لكل بلد أو منطقة وتنظر في الاحتمالات المقبلة والامكانيات المتاحة لها كي تساهم بطريقة نافعة في الاقتصاد العالمي وتخدم شعوب المنطقة. نعم، الموارد الطبيعية ستبقى مهمة خلال النصف الأول من هذا القرن، وربما بعده، ويجب أن تستخدم لتنمية البنى الأساسية التي يحتاجها الاقتصاد الحديث. السياحة والزراعة ستبقيان مهممتين، ولكن، هذا عصر الصناعة والخدمات، ولا يمكن أي اقتصاد أن يكون قويا دونهما. يمكننا الاستثمار في مجالات عديدة تقترحها مراكز الأبحاث المتخصصة المتمرسة من أجل تحقيق الاستقرار والارتباط بقوة بالاقتصاد العالمي بحيث يمكن بلدانَنا أن تكون فاعلة ومؤثرة.
حميد الكفائي