كورونا التي تسلب الحرية وتقتل الأحباب
سكاي نيوز عربية 11/5/2020
كنت قد تجاوزت العاشرة من عمري حينما وقعت كارثة بشرية في العراق قلما ذكرها أحد، ربما لأنها كانت مأساةً وفضيحةً في الوقت نفسه. مازلتُ أتذكر تلك الكارثة التي حلت بالفقراء الريفيين في العراق مطلع عقد السبعينيات من القرن الماضي. كانت الحكومة العراقية آنذاك قد وزعت على الفلاحين أكياسا من القمح (أو الحنطة، كما يسميها العراقيون)، لكل عائلة، وكانت الحبوب مُعالَجة بمواد كيمياوية لقتل الكائنات الحية التي تصيب الحبوب بالعفن، وهي مخصصة للاستخدام كبذور فقط، أي للاستخدام في زراعة محصول القمح في الموسم المقبل.
كانت علامات التحذير من خطورة استخدام تلك الحبوب كمادة غذائية واضحة على الأكياس، كتابةً ورموزاً وصوراً، لكن الفلاحين المساكين، وبسبب الجوع والجهل والأمية ونقص الإرشادات، استخدموا تلك البذور (المُسمَّمة) لسد رمقهم وأخذوها إلى المطاحن وحولوها إلى دقيق، وبدأوا يستخدمونها في طعامهم، وكانوا فرحين جذِلين جدا أنهم (أمّنوا) غذاءهم لموسم الشتاء، لكنهم لبساطتهم، لم يدركوا الكارثة التي خبأها لهم الدهر! لقد ماتوا ولم ينقضِ الشتاء بعد، فلم يمهلهم القدر أن يستهلِكوا ما توهموا بأنها مؤونة الشتاء.
كان الخبزُ المصنوعُ من تلك البذور يختلف عن الخبز العادي، إذ كان لونه أحمر، نتيجة للأصباغ المرافقة للمواد الكيمياوية التي ميزت حبوب البذور عن الحبوب العادية. ولأن الخبز هو المادة الأساسية في غذاء الفلاحين والفقراء بشكل عام، فقد تراكمت السموم في أجسادهم ودمائهم بمرور الزمن، لكن آثارها لم تظهر إلا بعد شهرين أو ثلاثة، فالمواد الكيمياوية التي عوملت بها البذور كانت مُعدَّة لمكافحة الكائنات الضعيفة التي يمكن أن تتلف البذور أثناء الخزن أو عند نثرها في الأرض، لذلك فإنها لم تؤثر في الإنسان بسرعة.
وبعد بضعة أسابيع بدأت الإصابات تتري بين صفوف الفلاحين المتناولين للخبز المصنوع من (الحنطة المسمومة) كما أطلق عليها لاحقا. وبدأ الضعفاء، خصوصا المرضى والأطفال والمسنّين والنساء، يتساقطون ويموتون تباعا، وقد أُبيدت عائلات بكامل أفرادها وعم الموت في كل مكان. التحذيرات الحكومية من استخدام تلك الحبوب، رغم أنها كانت واضحة للمتعلمين، لكنها لم تكن قوية بحيث تقنع الفلاحين وتخيفهم من خطر استهلاك البذور في طعامهم، بل كان المرشدون الزراعيون، المكلفون بإرشاد الفلاحين، يرونهم بأعينهم يأكلون طعاما مُسمَّما ولم يحذروهم من مخاطرة، بل كانوا يشاركونهم هذا الطعام أحيانا. وما أوهم الفلاحين والمرشدين الزراعيين هو بطء تأثير (الحنطة المسمومة) على الناس فلم يُصَب أي شخص بأي مرض في الشهر الأول أو الثاني، فتوهم الجميع بأن الحكومة إنما كانت تكذب عليهم، فهي تقول إن الحنطة مسمومة بهدف جعل الفلاحيين يستخدمونها في الزراعة فحسب، بدلا من استهلاكها في طعامهم، وأن الحنطة هي في الحقيقة ليست مسمومة! ولأن الناس في العراق، لسبب أو لآخر، لا يثقون بما تقوله الحكومة، وهذه ظاهرة تاريخية قادت وستبقى تقود العراق إلى كوارث، خصوصا بعد أن تفاقمت في ظل الحكومات الأخيرة، فقد خالفوا التعليمات الحكومية لكنهم في النهاية دفعوا الثمن غاليا.
تذكرتُ هذه الكارثة، التي مضى على حدوثها نصف قرن تقريبا، والتي سكتت عنها الحكومة ووسائل الإعلام حينها لأسباب لا مجال للخوض فيها الآن، تذكرتُها بعد اندلاع جائحة كورونا خلال الأشهر القليلة المنصرمة في أنحاء العالم المختلفة بسبب أوجه التشابه بينهما. الكارثة التي تحل بالمصابين بكورونا هي أنها تصيب كل أفراد العائلة، تماما كما فعلت الحنطة المسممة بالعراقيين، والتي راح ضحيتها عشرات الآلاف من البشر، نتيجة لمركَّب الفقر والجهل. لكن الاخطر في وباء كورونا أنه ربما يصيبك حتى مع حذرك الشديد، فالمرء لا يتحكم بتصرفات الآخرين من حوله، بل ولا حتى بتصرفاته هو أحيانا. فالطبع يغلب التطبع في أغلب الأحيان. فإن كان الأطباء يموتون بالكورونا، فكيف يكون حال الناس العاديين؟
الشاعر والكاتب الموسوعي الراحل جودة القزويني
وباء كورونا خطف منا أصدقاء أعزاء، لم يكونوا مرضى ولم يعانوا أي ضعف أو سقم. صديقي لأكثر من ثلاثة عقود الشاعر والكاتب الدكتور جودة القزويني، أصيب بالكورونا وفارق الحياة وكانت صدمة لكل من عرفه. كان جودة شاعرا مرهفا وجزلا ويمكنه أن يكتب قصيدة متميزة خلال دقائق، وقد رأيته يفعل ذلك، إذ كتب قصائد مؤثرة خلال فترة وجيزة، بل إنه كتب قصيدة حول (كورونا) يوم 14 مارس 2020 بعدما أصيب بالفيروس الذي قتله يوم 7 أبريل:
صديقي الآخر الذي مات بالكورونا هو صباح الشاهر، الروائي والكاتب العراقي الذي طالما التقيته في النشاطات الثقافية والبرامج التلفزيونية. كان صباح يدهشني بوضوح أفكاره وثقته العالية بمعلوماته وقوة حجته، وطالما اختلفنا في الآراء وبقينا أصدقاء. صديق آخر فقدته بعد أن أصيب بالكورونا هو الدكتور مجيد الحسيني السامرائي الذي يعمل طبيبا في المستشفيات البريطانية منذ أكثر من ثلاثين عاما. كان د. مجيد طبيبا حاذقا ومتفقها في الدين أيضا، وطالما التقينا في رمضان تحديدا. صديق آخر، وهو شخصية علمية عالمية، اختطفه فيروس كورونا، هو المعماري العراقي الشهير رفعة الجادرجي الذي ذهب إلى المستشفى معافى للمراجعة، فأصيب هناك بالكورونا وفارق الحياة بعدها بأيام.
عشرات العرب في بريطانيا والبلدان الغربية، وكثيرون منهم أطباء وممرضون، فقدوا حياتهم بهذا الفيروس اللعين الذي أحال حياة الناس إلى مأساة مستمرة وهلع متواصل، حتى أن صحيفة غربية معروفة كتبت مقالا حول تضحيات الأطباء من ذوي الأسماء العربية في سبيل إنقاذ الناس من الجائحة، بينما أشاد أحد مديري خدمة الصحة البريطانية بالدور الذي لعبه المهاجرون في إنقاذ الناس من الفيروس، والذي اتسم بالإيثار والتفاني. لاشك أن إهمال الحكومات العالمية دعم المؤسسات العلمية المتخصصة كي تكون مستعدة علميا وعمليا لمواجهة الأوبئة، هو الذي سبَّب هذه الأزمة. يقول الملياردير الأميركي، ومالك مؤسسة مايكروسوفت، بيل غيتس، الذي تبرع بمبلغ 250 مليون دولار للأبحاث العلمية الخاصة بفيروس كورونا، إننا الآن على استعداد لمواجهة الفيروس المقبل وكان يجب أن نكون مستعدين لمواجهة هذا الفيروس، لكن الحكومات مقصرة في دعم مراكز الأبحاث في هذا المجال.
عند محاولتي الاطمئنان على الأصدقاء، خصوصا ممن تقدم بهم السن، لم يخفِ كثيرون منهم خشيتَهم من المستقبل الغامض، فقد مات أصحاء بالكورونا بينما نجا آخرون بأعجوبة. البروفيسور أندرو ماسي أخبرني بأنه بخير، لكنه وزوجته قلقان جدا على ابنهما الطبيب، لأن الأطباء والممرضين هم الأكثر عرضة للإصابة بالفيروس بسبب وجودهم في بيئة يقصدها المصابون. إنه الزمن العجيب الذي يَقلَقُ فيه الناس على صحة الأطباء!
لا شك أن الفيروس سوف ينتهي قريبا وهناك بوادر لإيجاد حلول لهذه الازمة العالمية في بلدان كثيرة، فالعلماء في كل أنحاء العالم ينكَبّون حاليا على فهم طبيعة الفيروس وكيف ينتشر أولا، وإيجاد العلاج المناسب له ثانيا، ثم التوصل إلى إنتاج لقاحٍ واقٍ منه ثالثا. وحينها سيصبح الفيروس في خبر كان، كما اختفى الجدري والطاعون والكوليرا والإنفلونزا الإسبانية من قبله. وخلال هذه الفترة، فإن المحظوظ منا هو من يتجنب الإصابة به، فالإصابة تحمل بين طياتها احتمال الموت، فاحذروا يا أولي الألباب.
لا شك أن التحدي الأكبر سيكون كيف يمكن وقاية الناس من هذا الفيروس والفيروسات المماثلة عندما تعود الأمور إلى طبيعتها. هل سيطمئن المسافرون إلى الركوب في طائرات مكتظة بالمسافرين؟ هل يعود الشبّان إلى النوادي والمطاعم والقاعات الموسيقية المكتظة بالرواد؟ هل يمكن أن يطمئن الناس مستقبلا إلى الركوب في القطارات والحافلات المزدحمة؟ هل يمكن أن تُعقد المؤتمرات والتجمعات الحاشدة دون مخاطرة باندلاع عدوى؟ كلها تحديات تحتاج البشرية لأن تجد لها حلولا قبل أن تعود الأمور إلى طبيعتها. لكن الجُرح الذي تركه الفيروس فينا بخطفه أحبتِنا وأصدقائنا لن يندمل بسهولة.
حميد الكفائي