متى ينتبه العالم إلى خطر الفاشية الإيرانية؟
سكاي نيوز عربية 24 آب/أوغسطس 2020
مسلسل الاغتيالات في العراق مستمر منذ سنين، ولا يمر يوم دون أن تُرتَكَب جريمة بشعة ضد المدنيين في مكان ما من البلد.
الأربعاء الماضي، اغتيلت الناشطة النسوية المعروفة عراقيا، الدكتورة ريهام يعقوب في البصرة، وقبلها بأيام اغتيل الناشط المدني تحسين أسامة، وقبله أغتيل الصحفي أحمد عبدالصمد وقبلهم اغتيل هشام الهاشمي وسعاد العلي، وهكذا تتوالى الاغتيالات لطليعة المجتمع العراقي الذين يطالبون بحياة حرة ودولة مستقلة غير تابعة لإيران.
من الذي قتل هؤلاء وآلاف غيرهم خلال 17 سنة؟ لا يوجد شك عند معظم العراقيين والمراقبين أن القتلة هم أعضاء المليشيات الإيرانية المنتشرة في العراق والتي تأتمر بأمر قائد (فيلق القدس) الإيراني المرتبط بالمرشد الإيراني علي خامنئي. المسألة ليست مجرد شكوك أو ظنون، بل الأدلة قائمة على هذه الجرائم البشعة بحق الشبان من صحفيين ومهنيين وناشطين.
فقبل الإقدام على عملية الاغتيال، تشُن الجماعات الموالية لإيران حملة تسقيطية في وسائل الإعلام التابعة لها وفي وسائل التواصل الاجتماعي ضد الأشخاص المستهدفين، وأول اتهام لهم هو الارتباط بالولايات المتحدة وإسرائيل، من أجل تسقيطهم وتحريض الناس ضدهم وتبرير اغتيالهم. وقد شُنّت حملة مسعورة ضد المغدورة ريهام يعقوب، شاركت فيها وسائل الإعلام الإيرانية بما فيها وكالة (مهر) الإيرانية التي اتهمت الناشطين العراقيين بالعمالة للولايات المتحدة والارتباط بالقنصلية الأمريكية في البصرة، في توجيه واضح إلى أعضاء المليشيات وخلاياها العاملة في العراق بتصفيتهم. وتشن مثل هذه الحملة قبل عملية الاغتيال أحيانا، بينما تبقى عملية التسقيط الأخلاقي مستمرة بعد وقوع الجريمة.
لقد بلغ الاستهتار والاستخفاف بالرأي العام العراقي عند أتباع إيران وأبواقها إلى أن يدَّعوا بأن من يقتل هؤلاء الناشطين هو جهة تابعة للولايات المتحدة! فهم من جهة يتهمون الناشطين بالارتباط بأمريكا، لمجرد أنهم حضروا مؤتمرا أو التقوا في مناسبة عامة بدبلوماسي أمريكي أو غربي، ومن جهة أخرى يتهمون الجهة الأمريكية نفسها، بأنها تقف وراء قتلهم! إنه حقا قعر الاستهتار والاستغفال الذي بلغه هؤلاء بحيث يتوقعون من الناس الأصحاء تصديق هذه الادعاءات التي تتحدى المنطق. لكنهم في الوقت نفسه يبررون لأنفسهم الارتباط عسكريا وأمنيا وماليا بإيران، التي يدعو قادتها علنا إلى إلغاء العراق والاستيلاء عليه تحت مدعيات دينية.
أما الجهة التي يجب ان تضطلع بحماية المواطنين والتحقيق في أعمال القتل والخطف والاعتداء على الناشطين المدنيين، وجلب القتلة إلى العدالة، وهي الحكومة العراقية، فهي على ما يبدو أضعف الأطراف، علما أنها هي التي تدفع رواتب هؤلاء القتلة باعتبارهم “جزءا من الأجهزة الأمنية العراقية” وهي التي توفر لهم التسهيلات من سيارات وهويات ومقرات وحصانة، بالإضافة إلى السلاح الذي يقتلون به المواطنين الأبرياء.
كانت ريهام يعقوب، حسب مراقبين ومنظمات حقوق إنسان، أهم ناشطة نسوية في البصرة، إذ كانت قادرة على تسيير المظاهرات الحاشدة خلال فترة قصيرة لما تتمتع به من مكانة اجتماعية وعلاقات طيبة في المجتمع، فهي طبيبة معروفة ولديها قدرات ثقافية وشجاعة أدبية نادرة وروح وطنية عالية. كانت تقود المظاهرات السلمية وتطلق هتافات مؤثرة تحرك المشاعر الوطنية عند الناس، ومن أهم الهتافات التي اطلقتها، وأصبحت سائدة ومؤثرة، هو هتاف (انا ولائي للوطن، انت منو)، إذ يبقى الناشطون يرددون وراءها (انت منو) والمقصود بـ (أنت) هو عصابات الغدر والسرقة التي توالي إيران بدلا من العراق.
كان واضحا أن ريهام مستهدفة، كما كان تحسين أسامة وهشام الهاشمي وأحمد عبد الصمد مستهدفين، والسبب هو لأنهم يطالبون بدولة ديمقراطية عصرية، دولة مستقلة وغير تابعة لإيران. وهم مستهدفون أيضا لأنهم مؤثرون في الرأي العام العراقي، كلٌ في مجال عمله واهتمامه. ريهام كانت بارعة في التحشيد ضد الفساد والفشل والتبعية، إذ كانت تقود التظاهرات باقتدار، وأحمد عبد الصمد كان بارعا في كشف المشاريع الفاشلة ومواضع الفساد وتعريتها عبر تقاريره المرئية المتواصلة من كل مدن الجنوب، فقد كان يسافر إلى كل مكان يجد فيه قصة تهم الرأي العام، ويحقق في الصفقات والمشايع الفاسدة ويرسل تقاريره المصورة إلى الناس مجانا، وتحسين أسامة كان مؤثرا في الاتصالات والتواصل مع المحتجين، الذين هم معظم الناس، إذا كان لديه مكتب إنترنت في البصرة وكان يتوقع الاغتيال في أي لحظة، بل كان يرفع لافتة تقول (أنا الشهيد المقبل)! أما هشام الهاشمي فكانت تحليلاته الثاقبة كاشفة ومعرية لخطط وألاعيب الجماعات المسلحة الإرهابية.
الجماعات المسلحة تستغل حالة الضعف الحالية والشلل الحاصل في البلد نتيجة لجائحة كورونا والأزمة المالية، لتصفية كل معارض للوجود الإيراني في العراق، والفساد والسرقة والفشل المتربطة بها. لذلك لا غبار على هوية القتلة. إنهم مجرمون ظلاميون تابعون للنظام الإيراني ويستخدمون شتى الذرائع لتبرير جرائمهم التي تستهدف منتقدي إيران. أحد النواب المتذبذبين، الذي تنقل من جماعة إلى أخرى خلال 17 سنة، لكن ولاءه بقي واضح المعالم، رغم أنه اتخذ مواقف جريئة سابقا، يبرر قتل الدكتورة ريهام يعقوب بلقائها بالقنصل الأمريكي في البصرة الذي التقته مع عشرات العراقيين في نشاط عام التقطت له صورا ونشرتها على صفحاتها في وسائل التواصل، فلم يكن هذا سرا.
كثيرون من ساسة العراق وإيران يجهلون مهام الدبلوماسي الأجنبي، فهم يعتقدون بأن على الدبلوماسي أن يبقى حبيس السفارة ولا يلتقي بأحد ولا يعبر عن رأي ولا يزور أي مؤسسة ولا يحضر أي نشاط، ولا يدعو إلى لقاء ولا ينظم مؤتمرا أو محاضرة، وإن فعل أيا من هذه النشاطات، فإنه يتدخل في الشؤون الداخلية للبلد في نظرهم. بينما وظيفة الدبلوماسي الفعلية هي التواصل مع الشعب والمؤسسات العامة والشركات الخاصة وأبناء الشعب والناشطين، واستكشاف الأوضاع في البلد كي يتمكن من معرفة كل ما يجري فيه وإطلاع المسؤولين في بلده عليها، بهدف البحث عن مجالات للتعاون بين البلدين، واستكشاف الفرص المتاحة لتطوير العلاقات. لا يمكن الدبلوماسي أن يؤدي عمله بإتقان إن بقي بين جدران مكتبه، فهذا ليس عملا دبلوماسيا، وهاهم الدبلوماسيون في البلدان المختلفة يتجولون بحرية ويعقدون اللقاءات مع الأحزاب المعارضة علنا، بينما تقوم الأحزاب المعارضة بزيارة البلدان الأخرى والتباحث معها حول سياساتها المستقبلية وماذا ستفعل إن وصلت للسلطة.
اللقاء بالأجانب، سواء كانوا دبلوماسيين أم سياح أم عاملين أم ناشطين مدنيين هو أمر معتاد في الدول الطبيعية، بل إن الدبلوماسي الذي يفشل في معرفة ظروف البلد الذي يعيش فيه وإقامة علاقات مع مؤسساته وطليعة المجتمع فيه، هو دبلوماسي فاشل، والدول المتقدمة لا تسمح بوجود دبلوماسيين فاشلين لأنهم ليسوا عديمي الفائدة لبلادهم فحسب، بل يجلبون ضررا عليها. أما الدول المنغلقة والمنكفئة على نفسها، التي تعيش في عصور ما قبل التأريخ، مثل إيران وكوريا الشمالية، فهي تحسب كل صيحة عليها، وكل لقاء تآمرا على الثورة وقائدها المظفر، واقتصادها الناجح ونظامها السياسي الفريد.
قادة إيران أدركوا جيدا ومنذ البداية أن الحراك الشعبي في العراق موجه ضد تدخلهم في العراق، رغم أن هدفه الأساس هو وطني عراقي، لأنه يسعى لمكافحة الفساد وتحقيق العدالة والمساواة بين الناس. لقد أدركوا ذلك لأنهم يعرفون جيدا أن هذه المطالب سوف تقود إلى تقويض نفوذهم وحرمانهم من الامتيازات التي يتمتعون بها على حساب العراق، لذلك غرد خامنئي في الأسبوع الأول لانتفاضة الشعب العراقي في أكتوبر 2019 مخاطبا العراقيين بأن (حب الحسين يجمعنا)! فهو لجأ إلى استخدام الخطاب الديني واستفزاز المشاعر المذهبية! لقد فضحت تلك التغريدة مخططات إيران في العراق وإلا ما معنى أن يوجه زعيم دولة أجنبية خطابا لمتظاهرين ضد حكومتهم في بلد آخر؟
لكن الخطاب الإيراني لم يعد مقنعا، لا في العراق ولا في مناطق نفوذ إيران الأخرى، مثل لبنان وسوريا واليمن، فالشعوب أدركت أن هناك فاشية إيرانية تسعى لتفتيت هذه البلدان واستعباد شعوبها وجعلها تابعة، وقتل كل من يعارض هذا التوجه الإيراني أو ينتقده. وعلى الرغم من العقوبات الدولية التي قصمت ظهر الاقتصاد الإيراني، فإن نظام ولاية الفقيه مازال مستمرا في ممارسة القتل والقمع والتدخل في شؤون الدول الأخرى، على مرأى ومسمع من العالم أجمع. ما يحصل في العراق من قتل ممنهج للمثقفين والناشطين المدنيين، نساءً ورجالا، يُشْرِف عليه النظام الإيراني مباشرة، وليس لدينا أوهام حول هذا الأمر، فالإعلام التابع لإيران لا يخفي توجهاته وخططه. نعم المنفذون هم في الغالب عراقيون، لكن التوجيه والتخطيط والأوامر إيرانية.
إلى متى يصمت العالم تجاه هذه الفاشية الجديدة؟ ولماذا يترك الأبواق الإيرانية التي ملأت الفضاء زعيقا تبث الكراهية وتحرض على العنف؟ هل هي اللاأبالية أم الجهل أم ماذا؟ مشروع إيران يستهدف دول المنطقة كلها، وليس العراق فقط، وما لم توقَف إيران عند حدها الآن، فإن خطرها سيطال بلدانا أخرى، لأن تمددها لن يتوقف عند حدٍ معين، وخططها لا ينقصها الابتكار.
حميد الكفائي