وكالة “انكتاد” تحذِّر من “مساوئ” العولمة على العالم النامي
الحياة، 17 سبتمبر/أيلول 1997
على العكس من التفاؤل الذي اتسمت به تحليلات كل من البنك وصندوق النقد الدوليين حول الاحتمالات الاقتصادية العالمية، فان مؤتمر الأمم المتحدة حول التجارة والتنمية (انكتاد) في آخر تقرير له حول التجارة والتنمية، يحذّر من أن هناك أدلة متزايدة على أن النمو الاقتصادي البطيء والتفاوت المتزايد في الدخول قد اصبحا من السمات الثابتة للاقتصاد العالمي. واستنادا إلى التقرير فان التفاوت في المجالات الاجتماعية والاقتصادية قد تنامى كثيرا بين البلدان الصناعية والبلدان النامية وبين الأغنياء والفقراء في كلا الجانبين. ويقدم التقرير دليلا إحصائيا على هذا التفاوت، فبعدما كان نصيب الفرد من الدخل القومي بين أغنى 20% من السكان في العالم يفوق نصيب الفرد بين أفقر 20% من السكان بـ 30 مرة في عام 1965، اتسعت هذه الفجوة بعد ربع قرن من الزمن، في عام 1990، لتتضاعف مرتين وتصل إلى 60 مرة.
ويحذِّر التقرير من أن هذا التفاوت المتزايد يشكل خطرا جديا ويهدد بإثارة استياء سياسي واسع النطاق ضد العولمة، ولربما يأتي هذا الاستياء من الجانبين، من البلدان النامية والبلدان المتطورة على حد سواء. ان مثل هذه الانعكاسات قد تضر بالإصلاحات التي تحققت خلال العقد المنصرم، بل حتى بالإنجازات الكبيرة للتكامل الاقتصادي العالمي. وتقدم العشرينات والثلاثينات تذكيرا جديرا بالاهتمام حول إمكانية تغلب الأحداث السياسية على الثقة والانفتاح الاقتصادي في الأسواق. ويحذر التقرير ايضا من أن أعباء التفكك الاقتصادي العالمي، إذا ما حصل يوما، لن يتحملها إلا أقل الناس قدرة على التحمل وهم الفقراء كما حصل أثناء فترة “الكساد العظيم” في العشرينات والثلاثينات من هذا القرن في أوروبا.
واستنادا إلى تقرير انكتاد، فليس هناك أي دليل على أن بلدان العالم الفقيرة بدأت تلحق بالبلدان المتطورة، بالرغم من المنافع الموعودة للعولمة، والتي لا تمر فرصة دون أن تؤكد عليها الدول الصناعية. بل أن هناك دلائل موثقة على أن التفاوت الشاسع في الدخول قد أصبح سمة دائمة من سمات الاقتصاد العالمي. ويضيف التقرير أن مجموعة قليلة من بلدان شرق آسيا تمكنت من إحداث النمو الاقتصادي اللازم وبالسرعة المطلوبة للحاق بركب العالم المتقدم، وقد تكون هذه البلدان قد تمكنت في بعض الحالات من الالتحاق فعلا بالبلدان المتطورة، كما في حالة تايلندة وسنغافورة وتايوان وهونكونغ وماليزيا، إلا أن الغالبية العظمى من الدول النامية لم تستطع أن تُحدِث أي شيء يقارب ذلك، وأن عدد البلدان النامية التي تمتعت بدخل يصل إلى ما بين 40-80% من متوسط الدخول في البلدان المتطورة هو أقل الآن مما كان عليه في السبعينات.
ويستنتج تقرير انكتاد من ذلك أن ازدياد المنافسة العالمية، وخلافا لما هو سائد حاليا في التفكير الاقتصادي الحديث، لا يأتي دائما بالتنمية والنمو الاقتصادي السريع أو يساعد في تقليص الفجوة بين الأغنياء والفقراء. “فليس هناك قانون اقتصادي يجعل الاقتصادات النامية تتطور بنفسها لكي تقترب من مستويات البلدان المتطورة عندما تنفتح تلك الاقتصادات على الاقتصاد العالمي”.
رغم ذلك، فان التقرير يرى أن بالإمكان تحسين هذا الوضع من خلال تبني سياسات افضل لإدارة عملية الاندماج الاقتصادي العالمي وتحقيق أهداف النمو الاقتصادي السريع وفي الوقت نفسه إعادة توزيع الثروة على نطاق أوسع. ويحذر التقرير المذكور، وعلى العكس تماما من مما يدعو إليه البنك وصندوق النقد الدوليان، الدول النامية من الإسراع في الانفتاح الاقتصادي ويدعو بدلا من ذلك إلى السير وفق خطة مدروسة بعناية للتحرر الاقتصادي تمتد عبر مراحل متعددة اعتمادا على متانة الاقتصادات المعنية وقوة مؤسساتها.
ويرى التقرير أيضا أن قواعد التجارة العالمية قد وُضِعت لصالح بلدان العالم الغنية. فالمجالات التي تتقدم فيها البلدان النامية مثل المنتجات الزراعية والمصنوعات التي تتطلب كثافة عمالية، كالألبسة، قد أُخضعت لحماية مشددة، بينما انخفضت القيود التجارية على السلع والخدمات التقنية العالية التي تنتجها البلدان الغنية. ويضيف التقرير “أن تصحيح هذا الانحياز يبقى تحديا مهما، ومن الضروري إعادة التوازن إلى جدول الأعمال في المحادثات التجارية في المستقبل”.
واستنادا إلى التقرير فان هناك مجالا آخر بحاجة إلى التغيير وهذا هو مجال الاستثمارات. فالتقرير يرى أن الخطى المتسارعة للتحرر المالي في السنوات الأخيرة قد أخرجت التمويل من حيز القرارات التجارية والاستثمارية. وقد كان ذلك على حساب الاستثمارات الطويلة الأمد لأن المتاجرة بالأصول القائمة أصبحت تدُّر أرباحا أكبر على المتعاملين بها مما يجلبه الاستثمار في مجالات جديدة والذي قد يستغرق وقتا اطول ويتضمن شيئا من المخاطرة. ونتيجة لذلك فان النمو في الاقتصاد العالمي منذ العام 1990 لم يتجاوز 2% سنويا، مقارنة مع نمو قدره 3% سنويا تحقق في فترة الثمانينيات التي اتسمت بالاضطراب وعدم الاستقرار، و5% في العام في الفترة التي عادة ما تدعى بـ “العصر الذهبي” في الخمسينيات والستينيات.
واستنادا إلى الوكالة الدولية فان النمو الاقتصادي لن يتجاوز نسبة 3% في عام 1997، وهذا معدل منخفض نسبيا ولا يمكن أن يحل مشاكل العمالة في العالم المتقدم أو مشاكل الفاقة في العالم النامي، ولا يسمح بتضييق الفجوة بينهما. ويوصي التقرير بإيجاد حوافز جديدة لإعادة استثمار الأرباح في مشاريع إنتاجية تساعد على إيجاد فرص عمل جديدة، بما في ذلك اتخاذ بعض الإجراءات للحد من استهلاك الكماليات في الدول النامية.
لكن موقف انكتاد هذا من العولمة قد يكون بدوافع أيديولوجية، فهذه الوكالة الدولية على وجه الخصوص لا تتعاطف عادة مع سياسات الاقتصاد الحر، على العكس من باقي الوكالات الدولية كالبنك وصندوق النقد الدوليين، ولم تتردد في الماضي من مهاجمة الاستثمار في البلدان النامية من قبل الشركات المتعددة الجنسيات واعتباره نوعا من الهيمنة الجديدة على العالم الثالث.
ولطالما تعرضت انكتاد في السابق لانتقادات من جهات مختلفة لآرائها التي عادة ما توصف بأنها مواقف يسارية تميل إلى التطرف أحيانا. غير أن استعداد انكتاد لتحدي الأسس التقليدية العالمية المألوفة، كما فعلت في هذا التقرير، لابد وان يعمل على إثراء الحوار الجاري حول منافع العولمة وأضرارها.
ففي الوقت الذي انتفعت فيه الدول الصناعية الكبرى كثيرا من الانفتاح الاقتصادي على باقي دول العالم، نظرا لجودة منتجاتها واحتكارها للمصنوعات التقنية العالية، فان الكثير من الدول النامية لم تتمكن من الاستفادة في اكثر الحالات من هذا الانفتاح الذي يُصمَّم عادة من قبل الدول الغنية ليتلاءم مع مصالحها بالدرجة الأولى، كإلغاء التعرفات والرسوم الجمركية على أصناف المواد التي تدخل ضمن صادراتها أو المواد الخام التي تحتاجها للاستخدام كمدخلات في مصانعها أو تلك التي لا تتميز بأهمية اقتصادية تذكر، وإبقاء الرسوم والتعرفات على المواد التي تدخل ضمن صادرات الدول النامية، مع التفنن في إيجاد التبريرات لذلك، كمخالفتها للضوابط البيئية أو اشتراك الأطفال في إنتاجها وما إلى ذلك من الحجج التي لا تخلو من صحة في بعض الاحيان.
لكن كل هذه المسائل تخضع للمفاوضات الثنائية او الجماعية وبامكان الدول النامية المتضررة منها التفاوض حولها بما يتفق مع مصالحها، تماما كما تفعل الدول المتقدمة. بالإضافة إلى ذلك، فان الانفتاح الاقتصادي في العالم النامي لا يقترن عادة بانفتاح سياسي حقيقي، بل يقتصر على إطلاق العنان، ومن غير ضوابط عادلة، لعدد من تجار السلع الاستهلاكية، والذين ربما يُختارَون وتُسهَّل أعمالهم على أسس بعيدة عن الانفتاح، كي يصبحوا وسطاء بين المنتجين والمستهلكين.
ولا يمكن اعتبار ذلك بحال من الأحوال مفيدا للتنمية الاقتصادية الطويلة الأمد. اما فيما يتعلق بقواعد التجارة العالمية فان هذه القواعد قد تغيرت كثيرا في ظل منظمة التجارة العالمية وان الدول النامية اصبحت معفاة من الكثير من الشروط الملزمة للدول المتقدمة. وهذا هو احد الخلافات القائمة بين الصين والولايات المتحدة، فالصين تريد الانضمام الى المنظمة كدولة نامية، لما لهذا الوضع من امتيازات كثيرة، بينما تصر واشنطن على انضمامها كدولة متقدمة.
أن تجارب القرن العشرين المريرة التي عاشها العالم النامي قد برهنت بما لا يقبل الشك ان ما يحتاجه هذا العالم أولا وقبل كل شيء هو إقامة دولة القانون المستقرة القادرة على حماية حقوق المستثمرين والمستهلكين من المواطنين والاجانب على حد سواء، والإدارة الكفوءة للموارد الاقتصادية، والقدرة على تشخيص المقومات الاقتصادية لكل بلد.
فهناك العديد من الدول النامية التي هدرت وتهدر أموالا وطاقات كثيرة على مشاريع غير مجدية اقتصاديا، كشق الأنهار في الصحراء أو تقديم المعونات السخية للمزارعين بهدف تحقيق “الاكتفاء الذاتي” في مجال الغذاء، بينما تتمكن هذه البلدان من استيراد المواد الغذائية المتوفرة في الأسواق العالمية وبأسعار رخيصة واستثمار تلك الأموال في مشاريع أخرى مجدية تمتلك فيها تفوقا على غيرها. ناهيك عن محاولات العديد من الدول النامية، وبعضها لا يتعرض لأي تهديد خارجي، الحصول على الاسلحة المتطورة التي تفوق حاجاتها الدفاعية اضعاف المرات، بما في ذلك السلاح النووي الذي يكلف مليارات الدولارات.
وإذا سلّمنا بان الدول الصناعية تسعى إلى تحقيق الحد الأقصى من الأرباح في كل تعاملاتها، حتى وان كان ذلك على حساب اقتصادات العالم الثالث، وقد يكون لذلك ما يبرره من الناحية الاقتصادية، فان من غير المنطقي ان يُنسَب تأخر العالم الثالث الى العولمة حيث لا علاقة لها بالمشاكل المذكورة آنفا التي يعاني منها هذا العالم المبتلى بالدكتاتورية المتحكمة بمقدراته والمسؤولة فعلا عن تأخره، وقد غاب ذلك تماما عن تحليلات انكتاد.
أن هناك الكثير من الدول التي انتفعت بالفعل من الانفتاح الاقتصادي المنظم والمسئول، لذلك فإن اتساع الهوة بين الأغنياء والفقراء وبين العالمين النامي والمتقدم له أسباب أخرى قد تكون العولمة أهونها على الإطلاق وإن من الافضل لدول العالم النامي ان تبحث عن السبل التي تمكنها من اغتنام الفرص الكثيرة التي توفرها العولمة، لا الحذر منها ومحاربتها.
حميد الكفائي