أزمة “الوساطة” تلاحق حزب المحافظين البريطاني
سكاي نيوز عربية: 18 نيسان 2021
على الرغم من النجاح الذي حققه رئيس الوزراء البريطاني، بوريس جونسون، الذي يقود حكومة حزب المحافظين منذ عامين تقريبا، في التعامل مع جائحة كورونا، فإن الحزب وجد نفسه فجأة وسط أزمة مشابهة لما حصل له في تسعينيات القرن الماضي، والتي تسببت في فقدانه السلطة عام 1997، وهي تتعلق باهتمام أعضائه وقياداته بمصالحهم الشخصية، على حساب المصلحة العامة.
في فترة التسعينيات، كان جون ميجور يقود الحزب والحكومة، وكان رجلا نزيها ولم تطله أي شبهة فساد مالي أو إداري، باستثناء إقامته علاقة مع إحدى زميلاته في الحكومة، والتي فضحتها هي لاحقا بعد خروجهما من السلطة. لكن مثل هذه الفضائح لا يهتم لها المجتمع الغربي بشكل عام، فهي تعتبر علاقات شخصية عادية، لا تهم المجتمع، إلا إذا كانت فاقعة وتنطوي على خيانة وخداع، لأن هذه السلوكيات تفضح شخصيات شاغلي المناصب الرفيعة.
لكن تقاضي النواب والوزراء (مكافآت) لقاء تقديمهم استشارات لشركات خاصة، أو توجيه أسئلة في البرلمان نيابة عن شركات أو مصالح تجارية، قد كثرت في تلك الفترة بعد أن (شاخت) حكومة المحافظين وازدادت الخلافات والانقسامات بين أعضائها ونوابها إثر مرور 18 عاما على وجودها في السلطة. لذلك خسر المحافظون السلطة لحزب العمال بقيادة توني بلير، الذي بقي في السلطة لثلاثة عشر عاما، عشرة منها بقيادة توني بلير، وثلاثة بقيادة غوردون براون، الذي كُشفت خلال ولايته الكثير من التجاوزات التي ارتكبها نواب من الحزبين الرئيسيين تتعلق في الكشف عن مصاريفهم.
الأزمة الحالية فجرها قيام رئيس الوزراء البريطاني الأسبق عن حزب المحافظين، ديفيد كاميرون، بالتوسط مع الوزراء الحاليين، خصوصا وزير المالية ريشي سوناك، لاستحصال قروض طارئة لشركة خاصة هي غرينسيل، التي يمتلك فيها أسهما، ويعمل الآن فيها مستشارا. وكان كاميرون قد انتقد شركات الوساطة بقوة، وقال إنها أصبحت خارجة عن السيطرة، ووعد بوضعها تحت المجهر والسيطرة حينما كان رئيسا للوزراء. وتحسب عليه الآن أنه كان ينتقد نشاطات الوساطة أو الـ(لوبي) عندما كان في السلطة، لكنه الآن يتوسط لصالح الشركة التي يعمل فيها. ويعترف كاميرون بأنه كان عليه أن يتواصل مع المسؤولين عبر القنوات الرسمية المعهودة، وليس عبر قنواته الخاصة باعتباره رئيسا سابقا للحكومة، لكنه يقول إنه لم يخالف القوانين البريطانية.
والأغرب من هذا أن كاميرون قد عيَّن لكس غرينسيل، صاحب الشركة المذكورة، مستشارا لديه أثناء فترة حكمه، ما يعني أن علاقته بهذه الشركة قديمة وأن ما كان يقوله حول ضرورة تحجيم نشاطات الوساطة، لم يكن سوى كلام للاستهلاك الانتخابي، ولم يؤمن به في الواقع، وأنه كان يخطط لمستقبله الشخصي في الشركة، وأراد أن يخدمها، وإلا ما معنى تعيينه مالكها مستشارا (دون أجر) في مكتبه أثناء رئاسته الحكومة؟ هذا المنصب مكَّن لكس غرينسيل، من معرفة سياسات الحكومة وخططها المستقبلية التفصيلية، وتوظيفها لصالح شركته، وهذه فرصة نادرة غير متوفرة للشركات المنافسة لها، تمكِّنها من تحقيق أرباح طائلة.
مثل هذه النشاطات الخاصة التي يقوم بها المسؤولون البريطانيون، الحاليون والسابقون، رغم أنها لا تشكل بحد ذاتها مخالفة للقانون بالنسبة للمسؤولين السابقين، الذين تحرروا من قيود المنصب، لكنها تعتبر مخالفة لمن يمارسها وهو يشغل منصبا، وتضر أحزابهم انتخابيا، فديفيد كاميرون شخصية مرموقة في المخيلة البريطانية، وهو الذي قاد حزب المحافظين من المعارضة إلى الحكومة، بعد 13 عاما في المعارضة، وكان سياسيا معتدلا وقريبا من الشعب، حتى أن كثيرين اعتبروه أقرب إلى العمال منهم إلى المحافظين.
لكن الوقائع تناقض المظاهر، فما قام به كاميرون في تعامله مع هذه الشركة كان سيطيح بحكومته لو أن علاقته بشركة غرينسيل قد كُشفت أثناء وجوده في السلطة، فالضوابط الحكومية تحتم الكشف عن المصالح الشخصية أثناء تولي المناصب الرفيعة. الغريب أنه لا توجد في بريطانيا ضوابط واضحة لعمل شركات الوساطة، حسب منظمة الشفافية الدولية، كما هي الحال في الولايات المتحدة أو حتى في جمهورية آيرلندا المجاورة. وقد طالبت منظمة الشفافية الدولية، فرع بريطانيا، الحكومة بوضع لوائح واضحة لعمل هذه الشركات وجعل نشاطاتها علنية وشفافة.
وعلى الرغم من أن حزب المحافظين قد انتخب قبل عام ونصف تقريبا، لولاية تمتد بين أربع إلى خمس سنوات في السلطة، وأن زعيمه الحالي بوريس جونسون، يتمتع بشعبية كبيرة، لكن هذه القضية، التي قد تتبعها قضايا أخرى، إذ أنها ستفتح المجال لمزيد من التحقيقات الصحفية في هذا الجانب، سوف تخدش صورة حزبه لدى الناخب، خصوصا إذا اختار أن يدافع عن زعيمه السابق، ديفيد كاميرون، وسوف تستغلها الأحزاب المعارضة، مثل العمال والديمقراطيين الأحرار والقومي الأسكتلندي، في دعاياتها المناهضة للمحافظين، خصوصا وأن نصف البريطانيين عارضوا مغادرة بريطانيا الاتحاد الأوروبي، وهم ساخطون الآن من حزب المحافظين بعد اتضاح فداحة خسارتهم نتيجة لهذا الانسحاب.
الحزب المعارض الرئيس هو حزب العمال بقيادة زعيمه الجديد، السير كير ستارمر، الذي كان يشغل منصبا قضائيا رفيعا، هو المدير العام لهيئة الادعاء العام، قبل أن يدخل البرلمان عام 2015. والسير ستارمر رجل قانون متمرس وقد عمل في إدارة القضاء في مناصب متعددة لعقدين من الزمن تقريبا، ونظرا لأدائه المتميز في إدارة القضاء البريطاني، بما في ذلك محاسبة الوزراء والنواب المخالفين للقانون، من مختلف الأحزاب، بما فيها حزب العمال، فقد منحته الملكة لقبا شرفيا رفيعا (سير) عند مغادرته منصبه القضائي 2014 وذلك “لخدماته لدعم القانون والقضاء الجنائي”.
وينتمي ستارمر إلى جناح يسار الوسط المعتدل في حزب العمال، ويتمتع بكاريزما وقدرات سياسية متميزة، بالإضافة إلى كونه من عائلة عمالية عريقة، وقد سماه أبواه “كير” تيمنا باسم مؤسس حزب العمال، وأول زعيم له في البرلمان، كير هاردي. لكن أهم صفة لديه هي معرفته التفصيلية بالقانون والقضاء وشؤون الدولة، وقدرته الفائقة على طرح القضايا المهمة بلغة سلسة وبليغة وبثقة عالية. وباعتباره محاميا لثلاثة عقود ونصف ومديرا للمحاكمات القضائية لعقد من الزمن، فإن سجله الوظيفي لا تشوبه شائبة، فهو المسؤول الذي كان يراقب أداء موظفي الدولة ويقاضي المخالفين منهم. كما أن له مؤلفات عديدة في القانون وحقوق الإنسان، تعتبر مراجع مهمة في هذا المجال.
ولم يتردد ستارمر في مهاجمة المحافظين واستغلالهم المناصب العامة لخدمة مصالحهم الخاصة مستشهدا بعمل ديفيد كاميرون لصالح شركة غرينسيل، والتذكير بفترة جون ميجور حينما افتضح سلوك العديد من نوابه ووزرائه في خدمة مصالحهم الشخصية. وقد افتخر ستارمر أثناء مساءلته رئيس الوزراء، بوريس جونسون، في مجلس العموم، بأنه قاضى مسؤولين ونوابا من كل الأحزاب خلال عمله في إدارة القضاء، وأنه سيواصل عمله الآن لتشريع قانون يحد من نفوذ شركات الوساطة ويعاقب المسؤولين الذين يستغلون مناصبهم لتمرير صفقات على حساب دافعي الضرائب.
لكن حزب المحافظين لديه أيضا زعيم متمرس ومتحدث بارع وشاعر وصحفي، وهو بوريس جونسون، الذي برهن على أنه أقوى من كل التيارات المناهضة له، وقد تمكن من الفوز الكاسح في الانتخابات البريطانية في ديسمبر 2019، إذ حصل على 365 مقعدا، مقابل 202 لحزب العمال، على الرغم من العقبات الكثيرة التي واجهته، وبعضها كان سيطيح بغيره، لكن شخصية جونسون الكارِزمية وشجاعته الفائقة وقدراته المتميزة في الإقناع والسخرية من الخصوم، مقارنة بخصمه اليساري المتشدد، زعيم حزب العمال السابق، جرمي كوربن، الذي تكبد حزبه في ظل قيادته أسوأ خسارة انتخابية في تأريخه الحديث، قد أقنعت الناخب البريطاني بان جونسون هو الأقوى والأفضل لقيادة البلاد.
كما أن نجاح جونسون في حملة التطعيم ضد كورونا، إذ تعتبر بريطانيا من أنجح البلدان في هذا المجال، فقد تلقى الجرعة الأولى من اللقاح حتى الآن 33 مليون بريطاني، بينما تلقى الجرعتين، الأولى والثانية، حوالي 9 مليون شخص، قد أقنع كثيرين بأن جونسون كفوء، وحريص على مستقبل البلد، وجعلهم يصرفون النظر عن هفواته الأخرى، رغم كثرتها. كذلك نجحت حكومته في إبرام اتفاق انسحاب مع الاتحاد الأوروبي، والذي فشلت سالفته في رئاسة الوزراء، تريزا مي، في تحقيقه، وهو على الرغم من نواقصه، خصوصا في ما يتعلق بوضع آيرلندا الشمالية، أفضل من الانسحاب دون اتفاق، والذي كان سيربك الاقتصاد البريطاني.
لكن الركود الاقتصادي الذي رافق جائحة كورونا، وتسبب به انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، الذي يقدر خبراء بأنه كلّف بريطانيا حتى الآن ترليون جنيه إسترليني (1.383 ترليون دولار) حسب وليام رايت، المدير التنفيذي لمركز أبحاث (كابيتال ماركيتس) ونشرته جريدة (إيفنينغ ستاندارد) اللندنية، بسبب مغادرة الأصول المالية بريطانيا إلى بلدان أخرى إثر القيود التجارية التي فرضها الاتحاد الاوروبي على التعامل مع بريطانيا، قد يغيران توجهات الناخبين الحالية، خصوصا بوجود زعيم قوي ومتمرس مثل السير كير ستارمر، في قيادة المعارضة، والذي يبدو مقنعا لأبناء الطبقة المتوسطة، إضافة إلى الطبقة العاملة التي يمثلها. وكما قال رئيس وزراء بريطانيا الأسبق، هارولد ويلسون، فإن “أسبوع هو زمن طويل في عالم السياسة”، فكل شيء قابل للتغيير في المستقبل، وقد تحمل السنوات الثلاث المقبلة ما لا يسر حزب المحافظين.
حميد الكفائي
https://www.skynewsarabia.com/blog/1430751-%D8%A7%D9%94%D8%B2%D9%85%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%B3%D8%A7%D8%B7%D8%A9-%D8%AA%D9%84%D8%A7%D8%AD%D9%82-%D8%AD%D8%B2%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AD%D8%A7%D9%81%D8%B8%D9%8A%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%B1%D9%8A%D8%B7%D8%A7%D9%86%D9%8A