الحوار المتمدن: 31 أيار/مايو 2022
كنت قد كتبت مقالا عن الشاعر مظفر النواب بُعَيّد رحيله، لكنني أشعر بضرورة العودة إلى موضوع مظفر، بسبب ما تعرض له هذا الرجل المبدئي الصلب من حملة مسعورة من التشويه بعد رحيله، وهذه الحملة مستغربة حقا ومجهولة الأهداف، بعض أبطالها ينتمون لجهات دينية والبعض الآخر لجهات سياسية محسوبة على النظام السابق، وقد نزل بعضهم إلى مستوى متدنٍ يفضح عُقَدَهم ودوافعهم، خصوصا أولئك الذين أعابوا عليه أصله “الهندي”، وليس خافيا من هم الذين يحاولون تجريد العراق من رموزه ومبدعيه!
وأنا هنا لا أرد عليهم، فهم في رأيي لا يستحقون الرد، لأنهم يدينون أنفسهم بأنفسهم، وإلا ما الضير في أن يكون المرء من أصل هندي أو تركي أو أفغاني أو قوقازي أو فلبيني؟ فبنو البشر متساوون في الكرامة الإنسانية، رغم تفاوتهم في القدرة على الإبداع وإنجاز المفيد. واكتفي بالتساؤل إن كان مظفر هنديا، وهو ابن الكاظمية التي تضم في أحيائها (محلة النوّاب) التي تحمل اسم عائلته، وهو الذي كتب “الريل وحمد” و”ليل البنفسج” بين رائعاتٍ كثر، فمن هو العراقي وكيف يكون؟
آخرون لاموا مظفر لأنه صمت على الوضع الحالي في العراق، “ولم يُدِن الاحتلال” أو ينتقد القادة الذين خلفوا صدام حسين في الحكم. لكن موقف مظفر واضح ولا يحتاج إلى إفصاح أكثر مما عبر عنه هو في قضايا مماثلة طوال حياته. فهو ضد الاحتلال وضد تسيس الدين وضد الطائفية وضد الفساد وضد العنصرية. وهذه قضايا واضحة ولا يمكن شخصا معروفا كمظفر، أو حتى أي شخص آخر، أن يبين رأيه في القضايا الواضحة. فهل علينا أن نصدر بيانا حول كل هجوم أو سرقة أو جريمة قتل أو تمييز طائفي أو عنصري، كي نبرئ أنفسنا من تأييدها؟ إعلان المواقف يحصل عندما يكون هناك غموض أو ضبابية في مسألة ما، بينما موقف مظفر من هذه القضايا واضح، كما هو موقف كل إنسان يحترم إنسانيته.
لم يلتقِ مظفر بالقادة الجدد عند زيارته العراق عام 2011، بمن فيهم رؤساء جمهورية ورؤساء وزارات ووزراء، ورفض الهبات المالية الكبيرة التي عرضها عليه بعضهم عندما زاروه في دمشق. كما أنه لم يعد إلى العراق ويستقر فيه نهائيا، كي يُقال إنه انسجم مع الوضع الطائفي، وكان يمكنه أن يعود، وكان سيعيش معززا مكرما، فالجميع، حتى المختلفون معه، أحبوه واحترموه، وكان سيتبارى السياسيون والمتنفذون في خدمته، ليس لأنهم أوفياء، بل لتجميل صورهم أمام الناس، فمظفر محبوب ويتمتع بشعبية واسعة، بشهادة صدام حسين له عند لقائه به عام 1969، لكنه فضّل البقاء في الخارج وعاش في عزلة حتى رحيله. لماذا يا ترى فعل ذلك؟ هل لأنه مؤيد للاحتلال والنظام الجديد مثلا؟
ينسى كثيرون أن مظفر مريض منذ عقدين من الزمن، وأن مرضه قد منعه حتى من الحديث خلال السنوات العشر المنصرمة، بل إنه لم يتعرف حتى على أصدقائه الذين كانوا يزورونه أثناء مرضه. كما أنه توقف عن نظم القصائد السياسية منذ ثلاثين عاما تقريبا، فلماذا يريدونه أن يكتب قصائد نارية في عقده الثامن أو التاسع، بعد أن توقف عنها قبل الأحداث الحالية بعشر سنوات أو أكثر؟
قلت في مقالي السابق إنني لست معجبا بقصائد مظفر الثورية الحادة التي نظمها بالفصحى، ولا متفقا مع الأفكار الواردة فيها، خصوصا تلك التي تخللتها عبارات نابية، وقلت إنها تستفز العصبيات البدائية ولا تليق بشاعر تقدمي كمظفر. لكن مواقف الرجل بقيت مبدئية ومثالية ومنسجمة كليا مع شخصيته التي عرفها الجميع. قد يكون مظفر قد تخلى عن ثوريته الأولى التي عرفها الناس عنه في شبابه وكهولته، لكنه لم يتخلَ عن مبدئيته ونزاهته وزهده بالمال والجاه والمنصب، وليس هناك أدنى ما يشير إلى خلاف ذلك.
وأغرب ما في الأمر أن هناك من اتهمه بالطائفية لأنه لم يشتم زيدا أو عَمْرا! وهؤلاء هم الطائفيون في الحقيقة لأنهم جردوا مظفر من كل مزاياه الأخرى واختاروا له هوية لم يتخذها يوما هوية له، وهي بالتأكيد ليست هويته الحقيقية. لم ينظروا إلى فكر مظفر وسلوكه وشعره ومواقفه وتضحياته وعلاقاته المتشعبة خلال عمره الذي امتد تسعة عقود، نظروا فقط إلى قضية واحدة وهي أنه ينتمي تأريخيا، أكرر، تأريخيا، إلى عائلة شيعية! لذلك فإنهم يقفون ضده ويفترون عليه لهذا السبب وحده، بغض النظر عن إيمانه بالفكر الشيعي من عدمه. وهذا يذكر بموقف أولئك الذين يعارضون أدونيس لكونه ينتمي تأريخيا إلى عائلة علوية!
وهؤلاء هم في الحقيقة مرضى ولا يستحقون الرد، حالهم حال أولئك الذين أعابوا على مظفر أصله الهندي، والحقيقة أن مظفر عربي الثقافة والانتماء والأصل، وقد غادرت عائلته إلى الهند قبل مئات السنين، وتبوأت مواقع سياسية هناك، وكانت معروفة في الهند بأصلها العربي، ثم عادت قبل مئتي عام إلى موطنها الأصلي في بغداد. وفي كل الأحوال فإن مسألة الجينات والأصول العرقية لا تهم مظفر ولا أي شخص يحترم إنسانيته.
الحقائق الثابتة والجلية هي أن مظفر شاعر عربي عراقي علماني يساري ثوري، وكل ما عدا ذلك هو وهم. ولأنه يؤمن بالعدالة والمساواة فلا يمكن أن يكون عنصريا أو طائفيا أو مناطقيا. ولذلك أُعجِب به اليساريون والقوميون والإسلاميون، وقد يخدش ذلك في يساريته عند البعض، لكن اليسار ليس مقتصرا على الشيوعيين والاشتراكيين فحسب، بل هناك إسلاميون وقوميون يساريون، كما أن هناك إسلاميين وقوميين يمينيين.
الإجماع الذي حظي به مظفر عربيا، مثير للإعجاب، لكنه في الوقت نفسه محل تساؤل. شخصيا، أعتقد بأن مظفر قد أسس لشخصيته الأدبية والسياسية الثورية مبكرا، قبل الاستقطابات المتأخرة في الثمانينيات والتسعينيات وبداية الألفية الثالثة، وأن هذا التأسيس كان راسخا ولم يهتز لاحقا، خصوصا وأنه تبنى بقوة قضية العرب المركزية، فلسطين، في مرحلة مفصلية من تأريخ العرب، كانت قد وقعت فيها هزيمة الخامس من حزيران وما تلاها من هزائم أخرى، فكان صوته في رفض الهزيمة ومن تسبب بها مدويا ومسموعا.
يضاف هذا إلى صفاته الشخصية المحببة وصموده الأسطوري أمام الإغراءات المادية والسياسية. أما صمته السياسي خلال ربع القرن الأخير من عمره، فله أسبابه الموضوعية، منها ظروف حياته الصعبة، كونه ملاحقا، واشتداد المرض عليه خلال الـ 15 عاما الأخيرة، وربما، إدراكه بأن الثورية لم تعد نافعة، بل لم تعد ممكنة بعد أن أحكمت الأنظمة الدكتاتورية (الثورية) قبضتها على السلطة فأصبحت حريته مقيدة خصوصا وأنه عاش في سوريا وليبيا واليمن وأريتريا، ثم في لبنان الذي احتضن كل الأيديولوجيات الثورية والقومية واليسارية واليمينية والإسلامية خلال فترتي الثمانينات والتسعينيات.
قد يكون معيبا على مظفر، ذي المواقف الفكرية والإنسانية الواضحة، أن يصدر بيانا يبين فيه موقفه الذي لا غبار عليه، حول قضية يفترض أن الجميع يعرف موقفه منها، ومثل هذا البيان فائض عن الحاجة لأي إنسان، ناهيك عن شخص معروف فكره وانتماؤه. ولا ننسى أن الشعراء الذي أدانوا الاحتلال وما قبله وما بعده، قد تحدثوا باسم مظفر كما فعل سعدي يوسف (أمظفّـرُ النوّاب، دعنا نتّــفقْ … أنا ســوف أذهبُ نائباً عنكَ… (الشـآمُ بعيدةٌ) والفندقُ الســرِّيُّ أبعَــدُ … سوف أبصقُ في وجوه بناتِ آوى… سوف أبصقُ في صحائفهم… وأبصقُ في قوائمـــهم… وأُعلِــنُ أننا أهلُ العراقِ… ودوحةُ النَّسَــبِ… وأُعلِـنُ أننا الأعـلَـونَ تحتَ ســقيفةِ القصبِ).
العديد من النقاد والشعراء لا يعتبرون مظفر مهما شعريا (باستثناء شعره الشعبي)، ومنهم مثلا الشاعر بُلند الحيدري، اليساري أيضا، لكن شهرة مظفر كشاعر فاقت معظم مجايليه، والاهتمام بشخصيته هو الآخر فاق الجميع، وخير دليل على اهتمام الناس به هو الحضور الواسع لنشاطاته، وبعضها ليس مجانيا. والسبب في رأيي هو تبنيه قضايا الشعوب العربية، وخصوصا قضية فلسطين، وزهده وشجاعته وثباته على المبادئ، واصطفافه الدائم مع الفقراء، وهذه صفات قلما تتوفر لأحد.
وأخيرا أقول لمن اختاروا أن يكونوا صغارا وأن ينزووا في الحفر المظلمة، إنكم لن تنتقصوا من مظفر بهذه المواقف المشينة التي تدينكم. لقد سما مظفر فوق المصالح والعصبيات والأحقاد الشخصية والطائفية والقومية وتبنى قضايا إنسانية لا مصلحة شخصية له فيها، بل تضرر ولوحِق بسببها. أقول هذا، وأكرر أنني لم أكن معجبا بشعر مظفر السياسي، ولا موافقا إياه في مواقفه المتشددة، ولم اشترك معه في عقيدته الشيوعية.
حميد الكفائي
https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=757801
أدناه، رابط مقالي السابق عن مظفر النواب
مظفر النَوَّاب.. المتمرد الذي أحبَّه الجميع