مستقبل تايوان الغامض يعيد رسم الخريطة الاقتصادية العالمية
سكاي نيوز عربية: 23 يناير/كانون الثاني 2023
على الرغم من أن احتمالات الغزو الصيني لتايوان تبدو ضئيلة حاليا، إلا أن قراءة متأنية للتوجهات الاستثمارية الأمريكية والصينية والتايوانية، خصوصا في حقل أشباه الموصلات، تفيد بأنها تأخذ بنظر الاعتبار حصول مثل هذا الاحتمال في المستقبل.
ابتداءً، يجب التأكيد بأن صناعة أشباه الموصلات، (أو الموصلات الأولية)، أصبحت مركزية بالنسبة للاقتصاد الحديث، وأن معظم الصناعات الحديثة، الخفيفة منها والثقيلة، تعتمد عليها اعتمادا كبيرا وأساسيا، وأن هذه الصناعة لها مرتكزان، الأول هو التصميم والتطوير، اللذان يعتمدان على تواصل البحوث العلمية لتوسيع الاستخدامات ورفع الكفاءة، وهذا الجانب تتصدره الولايات المتحدة.
أما المرتكز الثاني فهو صناعة أشباه الموصلات وتكييفها للصناعات المختلفة، وهذا تتصدره تايوان بقوة. ويقول الخبير في صناعة أشباه الموصلات، مالكوم بن، إن الطلب العالمي على أشباه الموصلات يزداد بنسبة 8% سنويا، ما يعني أن التوسع في الإنتاج هو أمر طبيعي وليس نتيجة لظروف استثنائية.
شركة (TSMC) التايوانية العملاقة، التي تقدر قيمتها بـ 430 مليار دولار، والتي تصنِّع 75% من أشباه الموصلات في العالم، بدأت منذ فترة في الاستثمار الواسع خارج تايوان. فقد شيدت في الولايات المتحدة مصنعا عملاقا، يمتد على مساحات شاسعة في فينكس في ولاية أريزونا، باستثمار بلغ 40 مليار دولار، وستكون شركة (أبل) الأمريكية، من بين أهم زبائنها. وتعتزم الشركة التايوانية العملاقة استثمار مليارات الدولارات في اليابان حيث ستكون شركة سوني أحد أهم زبائنها، رغم أنها منافس أيضا لأنها تنتج بعض أنواع أشباه الموصلات.
وعلى الرغم من أن مديري (TSMC) ينفون أن تكون الاستثمارات العالمية للشركة خارج مقرها الرئيسي في تايوان، هي بسبب خوفها من الغزو الصيني، أو احتمالات تأزم العلاقات بين الصين والولايات المتحدة، لكن الواضح أن مثل هذه الاستثمارات الكبيرة في جهات العالم الأربع تشير إلى أن (تي أس أم سي) تسعى لأن تبقى المنتج الأكبر لأشباه الموصلات، مهما حصل بين تايوان والصين، أو بين الولايات المتحدة ودول التحالف الغربي والصين، وأنها تسعى لأن تبقى قريبة من زبائنها الغربيين، أي أنها اختارت الجانب الذي يوفر لها الاستمرار كمنتج رئيسي في هذه الصناعة.
ولا شك أنها تعمل على أن يتوزع انتاجها عالميا، كي لا يتأثر بالأحداث الجيوسياسية الإقليمية والعالمية المحتملة، كاندلاع حرب، مثلا، بين تايوان والصين، أو تأزم العلاقات بين الولايات المتحدة والصين، إضافة إلى جعل مصانعها ووحداتها الإنتاجية قريبة من زبائنها الرئيسيين في الولايات المتحدة واليابان.
المؤشر الآخر على اتساع واشتداد التنافس العالمي الجيوسياسي، خصوصا بين الولايات المتحدة والصين، هو الاستثمارات الهائلة التي خصصتها الدولتان، لتطوير صناعة أشباه الموصلات. فالولايات المتحدة شرَّعت “قانون العلوم والشرائح الألكترونية” لعام 2022، الذي يقدم 280 مليار دولار على شكل تسهيلات ومنح للشركات الأمريكية، منها 52 مليارا للاستثمار في قطاع أشباه الموصلات وحده، ومن الواضح أن أحد أهداف هذا التوسع هو أن تتفادى الولايات المتحدة أي أزمة مستقبلية تؤثر على هذه الصناعة الحيوية للاقتصاد الأمريكي والعالمي.
بينما استثمرت الصين 150 مليار دولار في المجال نفسه، من أجل ألا تبقى معتمدة على تايوان والولايات المتحدة، إن حصلت أي حرب أو قطيعة، أو فُرِضت أي عقوبات اقتصادية عليها لأي سبب كان، خصوصا عندما ترى أن الظروف مواتية لضم تايوان بالقوة العسكرية، تطبيقا لقانون شرّعته عام 2005، وهو (قانون حظر الانفصال)، الذي يجيز للصين الشعبية استخدام القوة العسكرية “لتوحيد الصين”، في حال فشلت الطرق السلمية.
العديد من دول العالم الصناعية في أوروبا وآسيا بدأت هي الأخرى في الاستثمار في هذا القطاع، ولا يمكن تفسير هذه الهبة العالمية للاستثمار في صناعة أشباه الموصلات، بعيدا عن الظروف التي تحيط بالمنتِج الأكبر لهذا المُنتَج الصناعي الحيوي، ألا وهو تايوان، هذه الظروف التي يمكن أن تُعَرِّض الإنتاج في هذه الصناعة إلى الإرباك، ما يؤثر سلبا على الاقتصاد العالمي.
وأفضل من يقيَّم الأوضاع المحيطة بتايوان هو شركة (تي أس أم سي) التي تصفها مجلة الإيكونوميست بأنها “تنمو بوتيرة أكبر من تايوان نفسها” التي يتناقص عدد سكانها باستمرار، والذي لا يتجاوز 24 مليون نسمة. فإن كانت الشركة المنتجة لثلاثة أرباع أشباه الموصلات المتطورة في العالم، تستثمر خارج مقرها الرئيسي في تايوان، على الرغم من أن تكاليف الإنتاج في أمريكا واليابان أعلى بكثير مما هي عليه في تايوان، بل إن تكاليف تشييد المصانع في أمريكا تعادل خمسة أضعاف تكاليفها في تايوان، فإن الوضع لابد أن يتعلق بالقلق من المستقبل، سواء أكان بسبب احتمالات الحرب، أو نتيجةً للمنافسة الشديدة التي تلاقيها الشركة، خصوصا مع تزايد الإعانات المقدمة للشركات المنافسة لها.
شركة (تي أس أم سي) مصممة، على ما يبدو، على البقاء في الصدارة، وإن كانت دول العالم تتجه بعيدا عن تايوان للحصول عل أشباه الموصلات، فإن من الأفضل لها أن تذهب حيث يوجد الزبائن، وحيث توجد السوق الكبرى والنمو الاقتصادي الأعلى، كي تستثمر قدراتها الانتاجية والعلمية وتبقى تقود العالم في هذا المجال.
لقد تمكنت من التفوق على شركة إنتل (Intel) الأمريكية، التي لجأت إلى أسلوب الترويج للمنتج الوطني كي تبقى فاعلة في السوق، وإن بقيت (TSMC) خارج الولايات المتحدة، فإن منافستها العتيدة، إنتل، قد تستعيد موقعها السابق في السوق، مستفيدةً من التسهيلات والإعانات المالية الأمريكية التي يقدمها (قانون العلوم والشرائح الألكترونية).
واستنادا إلى بيير فيراغو، الخبير في مؤسسة (نيو ستريت للبحوث) فإن (تي أس أم سي) لم تتخلَ عن تايوان، كما يتوهم البعض، بل إنها شيدت وحداتٍ إنتاجيةً جديدة في تايوان، تفوق ما شيدته في أريزونا، لكن مراهنتها على السوق الأمريكية تتعلق بسياستها البعيدة الأمد، لضمان بقائها وتوسعها في تمتين فريق عملها المتخصص، والحصول على المزيد من الزبائن والمجهزين في السوق الأمريكية، تحسبا للاحتمال غير المتوقع، وهو ضرب الصين لتايوان، الذي اعتبره بن “عملا جنونيا” لن تُقْدِم عليه الصين.
مراقبون كُثر يرون أن الصين لن تُقْدِم على غزو تايوان، خصوصا بعد تورط روسيا في غزو أوكرانيا، وعدم قدرتها على حسم الحرب هناك، بسبب تمكن الأوكرانيين، بمساعدة أمريكية وأوروبية، من تحويل الحرب الأوكرانية إلى مستنقع لروسيا، يصعُب الخروج منه.
كما أن مشروعها الذي روجت له في هونكونغ، القائم على مبدأ “دولة واحدة بنظامين” لن يقنع التايوانيين بعد أن رأوا تطبيقه في هونكونغ، التي تتحول بمرور الزمن إلى مقاطعة مشابهة لباقي المقاطعات الصينية من حيث نقص الحريات وحجم تدخل الدولة في شؤون القطاع الخاص.
لكن آخرين يرون أن الرئيس الصيني الحالي، شي جينبينغ، مصمم أكثر من أي رئيس سابق، منذ عهد ماو زيدونغ، على “توحيد الصين”، بحلول نهاية ولايته الثالثة في عام 2027. ولكن التساؤل يبقى، ما الذي ستحصل عليه الصين من الضم القسري لتايوان؟ هناك 24 مليون تايواني يختلفون عن باقي الصينيين، في العديد من المزايا الثقافية والمستوى المعاشي، ومعظمهم يؤمن بأن من حق تايوان أن تكون دولة مستقلة. فإن انضم هؤلاء إلى الصين فإنهم سيؤثرون على تفكير باقي الصينيين، ما يزيد من كفة المطالبين بالإصلاح السياسي، الذي يرفضه الحزب الشيوعي الصيني الحاكم.
ويأمل الأمريكيون أن تتعلم تايوان الدروس من أوكرانيا، وتبدأ بالاعتماد على نفسها، وتزيد من حجم الإنفاق على الدفاع، مع استمرار تقديم الأمريكيين السلاح المتطور لها للدفاع عن نفسها، في حال حصول هجوم صيني عليها. ويبدو أن هناك تصميما لدى التايوانيين على مقاومة أي ضم قسري للصين قد تُقْدِم عليها القيادة الصينية في المستقبل.
ويرى خبراء أن التسلح التايواني يجب أن يقوم على مبدأ حماية النفس أو ما يسمى بالمصطلحات العسكرية (porcupine) أو (الطريقة القنفذية)، أي تدمير العدو المهاجم عند هجومه، وذلك باستخدام الصواريخ المضادة للطائرات والسفن الحربية، والأسلحة الأخرى القابلة للإخفاء.
لن تستفيد الصين من ضم تايوان لها، لكنها، في الظروف الحالية على الأقل، لن تقبل باستقلال تايوان، خصوصا مع وجود (قانون حظر الانفصال). لكن المؤكد أن التهديدات الصينية لتايوان قد أعادت ترتيب الأولويات الانتاجية في قطاع أشباه الموصلات، خصوصا وأن الطلب العالمي على هذه المنتجات في تصاعد مستمر.
أبلغ ما قيل في هذا المجال هو قول موريس تشانغ، مؤسس شركة (TSMC)، البالغ من العمر 91 عاما، في مقابلة صوتية بُثَّت على الإنترنت “إنْ وقعتْ الحرب فعلا، فسيكون لدينا مشاكل أكبر وأعمق من القلق حول أشباه الموصلات”!
حميد الكفائي