وعلى رغم أن كثيرين شككوا، وما زالوا يشككون، بأن قرار المحكمة لم يكن محايداً بل اتخذ لمصلحة الطرف المؤثر في المعادلة، إلا أن الجميع أذعن له في النهاية، وهذا لا بد وأن يكون علامة إيجابية. إذن، الحكومة الحالية نتاج إجماع سياسي روعي فيه القانون والدستور، شكلاً على الأقل. وهذا الإجماع حصل بعد أن تنازل الفرقاء السياسيون عن بعض مطالبهم والتقوا مع الآخرين عند منتصف الطريق. ففي مقابل تنازل قائمة «العراقية» عن تشكيل الحكومة، وافقت الكتل الأخرى على إلغاء قرارات الاجتثاث الصادرة بحق عدد من قادتها، وبينهم نائب رئيس الوزراء الحالي الدكتور صالح المطلك، ما سمح لهم بالمشاركة في الحكومة.
صحيح أن قرار الاجتثاث كان ظالماً من أساسه، لكن الموافقة على إلغائه كانت تنازلاً كبيراً ممن تبنوه ودافعوا عنه سابقاً. كما وافقت الكتل على إعادة النظر في قانون المساءلة والعدالة الذي شرعه البرلمان السابق نزولاً عند رغبة «العراقية».
قد يقول قائل إن ضغوطاً خارجية مورست على السياسيين وحملتهم على التوصل إلى اتفاق أربيل في تشرين الثاني (نوفمبر) 2010، ولكن، وبغض النظر عما إذا كانت تلك الضغوط قد مورست فعلاً أم لا!، إلا أن القوى السياسية العراقية هي التي اتفقت في ما بينها ووقّع ممثلوها على هذا الاتفاق، الذي نُفِّذ جزء مهم منه بينما بقيت أجزاء أخرى تنتظر التنفيذ. وكان الهدف من تلك التنازلات مصلحة الأطراف المشاركة ومن ورائها طبعاً مصلحة العراقيين جميعاً. فقد قال الدكتور أياد علاوي أثناء إعلانه قبول اتفاق أربيل إنه :»انحنى أمام مصلحة الشعب العراقي» وهذا الموقف يُسجل له من دون شك. كما يُسجل للدكتور المطلك أنه قرر العمل مع خصومه السياسيين الذين طالما اختلف معهم وهاجمهم وهاجموه بقسوة. ويسجل للسيد المالكي وحلفائه أنهم أيضاً قدموا تنازلات من أجل تحقيق الإجماع الوطني.
اتفاق أربيل، على رغم المصاعب التي رافقت تنفيذه، كان مقدمة لما يجب أن يكون عليه العمل السياسي العراقي مستقبلاً، وهو التعاون وتقديم التنازلات من أجل المصلحة العامة، واعتماد التفاوض كأساس لتقاسم السلطة. العراق مقبل على حقبة تحتاج إلى تعاون أكبر بين الأطراف السياسية الرئيسية واستعدادٍ للتنازل عما يراه البعض حقاً له، فثمن التناحر والتغالب سيكون باهظاً للعراقيين جميعاً، بل قد تكون الحلول اللاحقة صعبة أو مستحيلة، إن لم يكن القادة العراقيون مستعدين لتقديم تنازلات إلى خصومهم. نعم، هناك حاجة إلى أن ينظر كل طرف إلى مصلحته ومستقبله، لكن الأهم هو الحفاظ على النظام الديموقراطي الحالي، ومحاولة تطويره لأنه هو الذي يحفظ للجميع حقوقهم ووجودهم، ويجنب البلاد نشوء دكتاتورية جديدة أو تدخلاً أجنبياً آخر. هناك حاجة أيضاً إلى أن يدرك أي طرف أنه لن يتمكن من حكم البلاد بمفرده لأن العالم قد تغير ولن تستطيع أي فئة، مهما بدا لها أنها «لا تُهزَم»، أن تهيمن على الجميع طول الوقت. النظام العالمي الجديد مليء بالمتغيرات والمفاجآت التي قد لا تكون دائماً لمصلحة طرف معين على حساب آخر. إن شعر أحد الأطراف أنه قوي الآن وبإمكانه أن يُقصي الآخرين فعليه أن يعلم أن شعوره هذا، حتى وإن كان حقيقياً وليس متخيلاً، سيخلق له أعداء قد يتغلبون عليه في المستقبل. يجب أن يتعلم الجميع من دروس الماضي القريب، فليس من الإنصاف أن يبقى الشعب العراقي يعاني من الانقسام وعدم الاستقرار، بسبب الصراعات السياسية والطموحات الشخصية.
العراق الآن يواجه تحديات كبرى قد تهدد مستقبله وتعصف باستقراره، والأمر الوحيد الذي يمكِّنه من مواجهة التحديات المقبلة هو إدراك القوى السياسية لمدى هذه التحديات، واستعدادهم لتقديم التنازلات الشخصية والحزبية من أجل الإبقاء على الحد الأدنى من التماسك الوطني.
لقد رأينا خلال السنتين المنصرمتين الكثير من المبتدئين في العمل السياسي ممن تولوا مناصب مهمة، لكن أول ما فكروا فيه هو كيف يمكنهم أن يفرضوا رؤاهم السياسية أو الدينية على الآخرين، ويخنقوا حرياتهم الشخصية التي كفلها لهم الدستور والأعراف السائدة في العراق منذ عشرات السنين. يجب أن يتخلى المتشددون، إسلاميين أو غيرهم، عن أي خطط لحمل الآخرين على العيش وفق رؤاهم السياسية أو الدينية. لا يزال كثيرون منهم يتصرفون وكأن من واجب الآخرين أن ينصاعوا لهم دائماً متناسين أن الديموقراطية تعني الالتزام بالقانون واحترام الآخر وخياراته في الحياة. لقد عانى الإسلاميون والمتدينون كثيراً من القمع والإقصاء في ظل الأنظمة السابقة، وعليهم قبل غيرهم أن يدركوا أن ممارسة السياسات نفسها على الآخرين لن تأتي إليهم بالطمأنينة ولن تقود إلى استقرار وازدهار البلد. إن كان الإسلاميون ينظرون بإعجاب إلى التجربة التركية فليعلموا أنها لم تمس حريات الناس وخياراتهم، بل ساهمت في تعزيز الاستقرار وازدهار الاقتصاد وتحسين علاقات تركيا الوطنية والدولية.
هناك ثوابت على الجميع أن يلتزموا بها في المرحلة المقبلة. أولها أنه لا يحق لأي شخص أو مجموعة أن تحمل السلاح أو تلوِّح باستخدامه سوى أجهزة الدولة المختصة التي عليها أن تستخدمه وفق القانون وعند الضرورة القصوى. كل من يرفع السلاح في وجه الدولة عليه أن يعلم أنه يرفعه في وجه الشعب العراقي أجمع، وعلى الجميع أن يتصدى له. معارضة الحكومة حق لكل مواطن، ولكن يجب أن تكون وفق الطرق السياسية والقانونية فقط، حتى وإن اعتقد البعض أن الحكومة تتجاوز القوانين، فالتجاوز لا يُقابل بالتجاوز. يجب أن تلتزم الحكومة تطبيق مواد الدستور والقانون، وأن تضمن الحريات العامة والخاصة وتحميها حتى وإن تعارض ذلك مع متبنيات الأحزاب المشاركة فيها، لأن متبنيات الأحزاب لا يمكن أن تعمم على الجميع في الدولة الديموقراطية.
حميد الكفائي
http://international.daralhayat.com/internationalarticle/335549