ظن الكثيرون في بداية اندلاع الأزمة المالية في آسيا في تموز من العام الماضي (1997) أن الأزمة ستقتصر على الدول الآسيوية الخمس المتأثرة بها وهي تايلندة وكوريا الجنوبية وماليزيا وإندونيسيا والفلبين. وسعى كثيرون في الغرب وخصوصا في الولايات المتحدة إلى تبديد المخاوف التي انتشرت آنذاك من أن هناك أزمة مالية واقتصادية سوف تعم العالم كله ولن تقتصر على آسيا. وبالطبع لم يكن كل هؤلاء غافلين في حقيقة الأمر عما يجري على أرض الواقع أو جاهلين بالقوانين الاقتصادية الثابتة، بل إن تلك التحليلات والتنبؤات كان لها هدف أكبر وهو الحد من تأثيرات الأزمة المباشرة على الاقتصادات الغربية، ولو لم تسارع الحكومات إلى التأكيد على صواب سياساتها الاقتصادية فيما يخص العملة والتجارة والإنتاج وإلقاء اللوم على الحكومات الآسيوية فلربما تركت الأزمة آثارا أكبر وأسرع. فبالرغم من أن الولايات المتحدة الأمريكية تعلم أن ربع تجارتها الخارجية ينتهي في أسواق آسيا فإنها استبعدت كليا أن يكون للأزمة أي تأثير على اقتصادها، بل تنبأ رئيس مجلس الاحتياط الفدرالي الأمريكي، ألن غرينسبان، بأن الأزمة الآسيوية ستترك آثارا إيجابية على الاقتصاد الأمريكي، لأن البضائع الآسيوية الرخيصة الثمن في السوق الأمريكية سوف تساهم في خفض معدل التضخم في الولايات المتحدة مما ينفي الحاجة إلى رفع أسعار الفائدة، وأن ذلك بالطبع سيسهل الحصول على الأموال اللازمة للاستثمارات وبالتالي يساعد على تواصل النمو الاقتصادي. وبالطبع فإن غرينسبان، وهو العقل المدبر للانتعاش الاقتصادي الأمريكي في التسعينات، ليس بغافل عن احتمالات تطور الأزمة الآسيوية، لكنه يدرك تماما أن كلمة واحدة منه في غير محلها ستقلب الأوضاع رأسا على عقب وتحول الانتعاش الأمريكي إلى كساد أو ربما إلى انهيار شامل.
ولم ينتظر غرينسبان تطورات الأحداث بل حاول التأثير بها لصالح الولايات المتحدة، آملا في تقليص آثار الأزمة والحد من انتقال عدواها إلى أماكن أخرى. فبالإضافة إلى الدعم الكبير الذي قدمته الولايات المتحدة للبلدان المتأثرة بالأزمة من خلال صندوق النقد والبنك الدوليين في بداية الأزمة الآسيوية، قام غرينسبان بشراء ما قيمته ملياري دولار من العملة اليابانية “الين” في محاولة منه لإنعاش الاقتصاد الياباني الذي يعتقد الأمريكيون بأنه يحمل مفتاح الانتعاش في باقي الدول الآسيوية. لكن مشاكل الاقتصاد الياباني أكبر من أن تحل بملياري دولار، فهو يعاني من مشاكل هيكلية متأصلة في النظام الاقتصادي-الاجتماعي الياباني الذي يختلف تماما عن النظام الاقتصادي-الاجتماعي الأمريكي أو الغربي بشكل عام.
وبعد مرور عام وربع على بداية الأزمة الآسيوية، “اعترف” غرينسبان بأن من الخطأ الاعتقاد بأن الولايات المتحدة تعيش في عالم منعزل خاص بها، أي إنها ستتأثر بالاضطرابات المالية التي تحدث في باقي أنحاء العالم. إن هذا الرأي، الذي استنتجه غرينسبان “الآن”، أمر بديهي في الاقتصاد، ففي عصر العولمة، الذي تروج له الولايات المتحدة، لا يمكن لأي لاقتصاد أن ينمو بمعزل عن الاقتصاد العالمي، خصوصا إذا كان هذا الاقتصاد يعتمد على الصادرات كما هو الحال في الاقتصادات الغربية. بل إنه سيتأثر حتى إذا كان لا يعتمد كليا على الصادرات، ولكن يعتمد على الواردات من البلدان الأخرى المتأثرة بالأزمة أو تلك التي تتعامل مع البلدان المتأثرة.
فلو افترضنا أن صادرات دولة ما تعتمد في صناعتها على مدخلات أو مواد أولية من روسيا، وحصل تدهور اقتصادي لسبب من الأسباب في روسيا، فان هذا التدهور سيعرقل إنتاج المدخلات والمواد الأولية الروسية التي تعتمد عليها تلك الدولة مما يسبب خللا في صادراتها. وإذا كانت دول أخرى تعتمد على هذه الصادرات استهلاكيا أو لأنها تدخل ضمن مدخلات صناعتها، فإن تلك الدول ستتأثر أيضا بدرجات متفاوتة اعتمادا على درجة تعاملها مع تلك الدولة، وهذا بدوره يؤثر سلبا على اقتصاداتها. ومن هنا يأتي اهتمام زعماء أكبر إقتصادات العالم بالاضطرابات التي أصابت الأسواق المالية العالمية مؤخرا. فهم يعلمون أن الأزمة التي سميت في العام الماضي بالأزمة الآسيوية، ما عادت مقيدة ضمن حدود آسيا بل اكتنفت روسيا والبرازيل، وهما اقتصادان كبيران ولهما تأثير لا يستهان به على الاقتصاد العالمي، ومن المحتمل والمتوقع أن تشمل العديد من بلدان العالم بما في ذلك الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. لذلك طرح رئيس الوزراء البريطاني توني بلير، باعتباره رئيسا للدورة الحالية لمجموعة الدول الصناعية السبع، فكرة عقد قمة لرؤساء حكومات البلدان الصناعية السبعة لبحث الأزمة. كذلك أعلن الرئيس كلنتن أن الاضطرابات الاقتصادية الحالية في آسيا، وروسيا والبرازيل تشكل “أكبر تحد مالي يواجه العالم خلال نصف قرن” واقترح ست خطوات يجب اتخاذها فورا لتفادي تفاقم الأزمة. وقد أصدر وزراء المالية ومحافظو البنوك المركزية في الدول السبع بيانا مشتركا تزامن مع خطاب الرئيس كلنتن، مما يؤكد وجود خطة متفق عليها بين الدول الصناعية الكبرى، وعدوا فيه بالقيام بإجراءات منظمة ومنسقة لتحفيز اقتصاداتها إذا ما رأوا في ذلك ضرورة.
إن هذه النشاطات المتسارعة تشير إلى أن المسؤولين في البلدان الصناعية الرئيسية يخشون من أن تخرج الفوضى الاقتصادية عن السيطرة. فقد اعترف أحد المسؤولين الأمريكيين الكبار، على سبيل المثال، بأن “حجم التدهور قد كان أعظم بكثير من كل التوقعات”. أما بيان مجموعة الدول الصناعية السبع، فقد قال بأنه في ضوء ” الضغوط الاستثنائية في الأسواق المالية والاحتمالات المتدهورة للنمو في العديد من أنحاء العالم”، فإن خطر التباطؤ في الاقتصاد العالمي قد أصبح الآن يفوق خطر التضخم بكثير.
وإذا سلمنا بأن وصف الرئيس كلنتن للأزمة الاقتصادية الحالية بأنها “أسوأ أزمة اقتصادية خلال خمسين عاما” مبالغ فيه، فإن بالإمكان القول إن هناك أزمة تتهدد الاقتصاد العالمي وان من الخطأ إلقاء كل اللوم على البلدان الآسيوية. إن هذه الأزمة ربما بدأت في آسيا، في اليابان أولا ثم انتقلت إلى “النمور الآسيوية” بسبب اعتمادها الكلي على الصادرات وعدم توزيع صادراتها على مناطق مختلفة من العالم، لكنها امتدت لتشمل روسيا، التي تشهد فعلا انهيارا اقتصاديا خطيرا، والبرازيل، التي تقف على حافة الانهيار، وسوف تمتد لتؤثر على الكثير من دول العالم الأخرى بدرجات مختلفة. أما في البلدان الأخرى، مثل الولايات المتحدة وأوروبا، فمن المرجح أن يكون هناك تباطؤ سيقود في حالة استمراره إلى كساد.
بإمكان مجموعة الدول الصناعية السبع أن تواجه الأزمة الحالية من خلال العمل على تواصل النمو في الطلب في الولايات المتحدة وأوربا الغربية من خلال تخفيض منسق في أسعار الفائدة؛ وإيقاف انتشار العدوى من الأسواق الناشئة من خلال مساعدة الإقتصادات المتضررة على تجاوز الأزمة ومعاودة النمو، ومساعدة اليابان على حل مشاكلها الاقتصادية. غير أن تصريحات السيد ألن غرينسبان، رئيس مجلس الاحتياط الفدرالي لا تبشر بأن مجموعة السبع ستقوم بأي مما تقدم. فقد حذر غرينسبان من أن “مهمته هي التركيز أولا وآخيرا على الاقتصاد الأمريكي”، أي انه لن يعمل شيئا لمساعدة البلدان التي تعاني من الأزمة الاقتصادية. ولأن خفْض أسعار الفائدة حاليا لا يتناسب مع الدورة الاقتصادية في كل من الولايات المتحدة وبريطانيا، لأن الضغوط التضخمية الداخلية لا تبرر القيام بذلك، فإن من المستبعد أن يكون هناك أي تخفيض لأسعار الفائدة في البلدان السبعة.
إن اعتراف العالم الغربي أخيرا بأن هناك أزمة مالية واقتصادية عالمية لا يكفي وحده لحلها وان الوقت قد حان لأن تتحمل الدول الصناعية مسؤولياتها كاملة وتتخذ الإجراءات المناسبة لمعالجة هذه الأزمة حتى وإن كان بعض هذه الإجراءات لا يتناسب كليا مع وضع اقتصادي معين في إحدى هذه الدول. يبدو أن الدول الغربية اكتفت في الوقت الحاضر بإلقاء اللوم على البلدان الآسيوية وصندوق النقد والبنك الدوليين والمتعاملين في الأسواق المالية.