فليخترْ الانتهازيون والأنانيون إماما غير الحسين
المدى 20 كانونالأول 2011
لم أكن أريد الخوض في موضوع الإمام الحسين (ع) ولا أعتقد أنني كتبت فيه يوما منذ بدأت الكتابة قبل ثلاثين عاما، ليس لعدم الاهتمام أو قلة المعلومات، إذ قرأت ونقحت أمهات الكتب عنه منذ زمن بعيد، ولكن لأنني أشعر بأن الموضوع لا يحتاج إلى إضافة مني بعد أن أثراه كبار المفكرين والعلماء والمؤرخين عبر التأريخ. فكل شيء عن الحسين أصبح معروفا، في الأوساط العراقية خصوصا والعربية والإسلامية عموماً.
إلا أن الذي اضطرني هذه المرة للخوض في هذا الموضوع هو ما رأيته من تزوير المواقف ومحاولة استخدام قضية الحسين من قبل أشخاص هم أبعد ما يكونون عن أخلاقه ومبادئه وتضحياته وتأريخه ولا هدف لهم سوى خداع الآخرين وتحقيق مكاسب سياسية أو مادية على حسابهم.
هؤلاء لم يضحّوا قيد أنملة في حياتهم وما كانوا يوما مستعدين للتضحية بأقل الأشياء من أجل الآخرين أو المبادئ أو أي شيء غير مصالحهم الشخصية. إنهم أنانيون حتى النخاع ودجالون بامتياز لكنهم لبسوا ثياب الفضيلة لممارسة النصب على الناس تحت عباءة الحسين وهو منهم براء.
أحد المطبّلين للنظام السابق والمقربين منه كتب مقالا طويلا عريضا يبين فيه مدى (التصاقه) بالإمام الحسين (منذ القدم) وكيف أن النظام السابق (لاحقه) هو وعائلته بسبب (حبه) للإمام الحسين وتعلقه به!!! شخص آخر من الصنف أعلاه، وهو الآخر أصبح متنفذا بقدرة قادر، كتب يقول إنه يجب أن يكون (كل يوم عاشوراء وكل أرض كربلاء) شعارا للناس جميعا وبدأ يعظ الناس (وينسى نفسه طبعا) أن عليهم أن يكونوا كأصحاب الحسين! شاعر أفنى شبابه في التطبيل للدكتاتور واختلاق الأوصاف والصفات الخارقة له وتنظيم جوقات المديح والصخب يلقي قصيدة عصماء عبر إحدى الفضائيات، مناجيا فيها الإمام الحسين (بخشوع) ومدعيا السير على نهجه وشاكيا إليه حاله. سارق ومتلوّن معروف يهرّج من على شاشة إحدى الفضائيات ويصرخ (ألما) لما حصل للحسين محاولا إيهام الناس بأنه مكلوم بمصابه حتى أنه من فرط دجله وتظاهره فقد صوابه وقام من كرسيه ليعانق مقدّم البرنامج الذي كان (يحاوره)!!! مسؤولون فاسدون وسياسيون لم يقدموا للناس سوى الكلام المنمق يرتدون السواد ويتوشحون بالاخضر ويتصدرون المجالس الحسينية خاشعين متظاهرين بالحزن والبكاء. وأخيرا وليس آخرا، حزب البعث، نعم البعث وليس غيره، الذي اتخذ موقفا معاديا من الشعائر الحسينية وممارسيها طيلة وجوده في الحكم، أصدر بيانا بمناسبة عاشوراء عنوانه (ستبقى الذكرى العطرة منارة سامقة تضيء دروب الجهاد والتحرير)!
الحسين بريء من المخادعين والدجالين
إنها حقا مظاهر تسيء إلى المجتمع العراقي وتشوّه مشهد الحزن النقي على الحسين، ومأساة جديدة تضاف إلى مآسينا الكثيرة. فهؤلاء الذين لا يهمهم من الإمام الحسين غير الاستفادة منه، يريدون اختطاف المجتمع باسم سيد المضحين وإيهامنا بأنهم أناس فضلاء يسيرون على نهجه ويتمثلون أخلاقه ويحملون مبادئه لكن المشكلة أننا نعرفهم حق المعرفة من سجلهم الحافل بأشياء كثيرة ليست التقوى واحدة منها. أما تغطية الفضائيات ووسائل (الإعلام) للمناسبة فقد أضافت حزنا جديدا لحزننا. لا شيء غير البكاء والعويل والنواح واللطم وكأن الحسين قد استشهد من أجل أن نبكي عليه. بينما زخرت بعض الفضائيات منذ بداية محرم بـ (البرامج الحوارية) التي تحلل واقعة كربلاء وسياسات حكام ذلك الزمن ومواقفهم وكيف كانوا يفكرون وما إلى ذلك وكأننا الآن نعيش في القرن الأول الهجري!
لا يبتغي من هذا العمل غير مرضاة الله! أما الوشاح الأخضر فللدلالة على أنه (سيد)!
كنت منذ أكثر من عقدين من الزمن أنادي مع المنادين بفصل الدين عن السياسة إنقاذا للدين والمشاعر الدينية وللمجتمع ومؤسساته ومصالحه من الدجالين والمنتفعين والمشعوذين المستعدين لأن يغيروا جلودهم ويتظاهروا بتدين مزيف ويدّعوا ما ليس فيهم من أجل خداع الناس وتحقيق مكاسب مادية على حسابهم. وهاأنذا اليوم أكثر قناعة من أي وقت مضى بأن الفصل بين الدين والسياسة ضرورة وطنية ودينية وأخلاقية من أجل تمييز الحابل من النابل والنافع من الضار ومن أجل تجريد الانتهازيين والمقصرين والمتجاوزين من أي قدسية أو حماية قد يكتسبونها بسبب ادعاءاتهم الكاذبة واحتمائهم بالدين. المتديّن الحقيقي واضح في سلوكه وتصرفاته وممارسته أعمال الخير دون ضجيج، متمثلا نصيحة الإمام الصادق لأتباعه (كونوا لنا دعاة صامتين). إن بإمكاننا أن نعرف من هو المتدين الحقيقي ومن هو الكاذب بوضوح وهذه المسألة لم تعد خافية على من يُعْمِلون عقولهم ويراجعون سجل الآخرين وسلوكهم.
إن ظاهرة احتماء المقصرين والمتجاوزين بالدين ليست مقتصرة على مجتمعاتنا فحسب بل هي موجودة حتى في المجتمعات الغربية ولكن بشكل محدود بسبب الأعراف والقوانين التي تحمي الناس العاديين ومؤسسات الدولة من الدجل والخداع باسم الدين. أحد المسؤولين في بريطانيا مثلا دخل السجن في التسعينيات بسبب نشاطاته غير القانونية لكنه، وقبيل أن يكمل محكوميته، أوعز إلى أحد أصدقائه كي يشيع بين الناس بأنه (اكتشف المسيح) في السجن وأنه درس الدين أثناء وجوده هناك وأنه سوف يتجه إلى الله وعمل الخير بعد إطلاق سراحه! وقد قام صديقه بنشر هذه الدعاية الجديدة عن صاحبه في الأوساط الإعلامية والهدف واضح وهو أنه يريد من المجتمع أن ينسى سجله المشين ويفتح له صفحة جديدة ناصعة البياض، ولكن هيهات لأن المجتمع ليس بهذه السذاجة. وقد تحول هذا الدجال إلى قس فعلا لأنه لم يجد أي مجال آخر يقبل به ويتعامل معه كشخص طبيعي!
شخص أمريكي متنفذ دخل السجن بعد إدانة المحكمة له بارتكاب جريمة مخلة بالشرف، لكنه وفي اليوم الأول لدخوله السجن، أعلن أنه (اعتنق الإسلام)!!! كي ينقذ سمعته التي تدنت بسبب ارتكابه تلك الجريمة، لكنه غادر الإسلام على ما يبدو وتوقف عن استخدام اسمه الإسلامي بعد أن خرج من السجن وظن أن الناس نسيت جريمته تلك رغم أنه انتهى مهنيا بعدها.
لكن البلدان والمجتمعات الغربية محصنة بالقوانين والأعراف الديمقراطية، إضافة إلى النباهة الاجتماعية ونضج وسائل الإعلام، التي تمنع استخدام الدين لأغراض سياسية أو لتحقيق مكاسب مادية خصوصا من المرائين الذين لا عهد لهم بالتدين. في فرنسا مثلا منعوا حتى الرموز الدينية في المدارس كي يزيلوا التفرقة بين الناس. إلا أن الدين ما زال يُستغل سياسيا في أمريكا مثلا ويدَّعي كل من يرشح في الانتخابات أنه متدين ومؤمن. بينما في بريطانيا لا يضير السياسي إن كان غير مؤمن أو غير ملتزم دينيا كزعيم حزب العمال الحالي، أد ميليباند، أو الأسبق نيل كينوك. أما المتدين توني بلير فطالما دافع عن نفسه قائلا إن تدينه مسألة شخصية ولم يتحدث عنه إلا مدافعا عن نفسه، كما أخفى اعتناقه المذهب الكاثوليكي حتى خرج من رئاسة الوزراء وعالم السياسة.
من أراد أن يكون تقيا وورعا فليفعل، جزاه الله ألف خير وخير، وليُرِ الناس تدينه وتقواه في أعماله وسلوكه دون صخب أو جَلَبة أو رياء، فلا حاجة للناس أن يطّلعوا (عن كثب) على ورعه وتقواه عبر ألوان ملابسه أو ملامح وجهه المصطنعة في المناسبات الدينية، أو صوره وهو يصلي أو يمسك بشبابيك المراقد، لأن الهدف من السلوك الديني هو كسب مرضاة الله، عبر السلوك القويم وعمل الخير في الدنيا ونيل الأجر في الآخرة.
إن الذين يحدثون صخبا حول تدينهم وممارساتهم الدينية إنما هم في الحقيقة مراؤون لا يبتغون وجه الله من وراء ذلك بل يسعون إلى تحقيق مكاسب مادية وسياسية عبر استغلال الدين لخداع الناس، لأن الله يعلم ما في القلوب وما في السرائر ولا يحتاج المرء إلى الصخب كي يكون قريبا منه، ولهذا السبب يمارس المؤمنون الحقيقيون صلاة الليل وصدقة السر وما إلى ذلك من أعمال تهدف إلى نيل رضا الخالق وليس المخلوق. يخطئ المتدينون الحقيقيون عندما يقحمون الدين في السياسة لأنهم سوف يفتحون الباب على مصراعيه أمام الدجالين والمتلونين ممن برعوا في أساليب الغش والدجل للاستفادة منها من دون وجه حق وحينها سيخسر المتدينون الحقيقيون مواقعهم الدينية والدنيوية ومعهم يخسر المجتمع ككل.
هناك مقولة خالدة وردت في كتاب (الملحمة الحسينية) القيم للمرحوم الشيخ مرتضى مطهري، وهو أحد أهم قادة الثورة الإيرانية، وقد بقيت تلك المقولة راسخة في ذاكرتي منذ أن قرأت ذلك الكتاب السِفر قبل عقدين من الزمن. يقول الشيخ مطهري ما معناه “إن علينا أن نبكي على الإمام الحسين ولكن ليس لأنه قتل وداست الخيول جسده الشريف أو لأن أبناءه وأخوته قد قتلوا معه وأن عياله قد أخذوا سبايا، بل لكثرة الأكاذيب التي ألصقت به”!
هناك الآن حاجة ملحة لإنقاذ المجتمع من الدجالين والمشعوذين والانتهازيين الذين لا يتورعون عن استخدام أقدس المقدسات في سبيل تحقيق أدنى المكاسب. هذه المهمة كبيرة ومقدسة ولن يصلح لها أو ينجح فيها إلا كبار رجال الدين والسياسة، من أجل حماية الدين والسياسة والمجتمع. سيبقى الحسين خالدا بعطائه وتضحياته وإماما للإيثار والتضحية، لكن الذين يدعون حبه دون مصاديق سلوكية وعملية لن يكسبوا غير الخيبة فقد عرفتهم الناس وسئمت رياءهم وأساليبهم. لقد آن الأوان لهم أن يستريحوا ويريحونا معهم.
حميد الكفائي