الحياة اللندنية
2008-02-19
يكاد الساسة العراقيون يجمعون على أن قانون اجتثاث البعث الذي أصدره الحاكم المدني الأميركي بول بريمر وتبناه مجلس الحكم كان خطأ استراتيجيا ترك عواقب وخيمة على العملية السياسية وخلق شرخا في المجتمع العراقي من الصعب رأبه في المستقبل المنظور. فقد تحول أكثر السياسيين حماسة لهذا القانون إلى منتقدين له، بمن في ذلك أعضاء في الحكومة والبرلمان الذين كانوا سابقا متشددين باتجاه معاقبة البعثيين وتحميلهم أخطاء نظام صدام. إلا أن خمس سنوات من التطبيق جعلت الجميع يدرك أن القانون ليس حلاً لمشاكل العراق خصوصا أنه أسيء استخدامه وأعطى صورة قاتمة عن النظام الجديد وأسبغ عليه صفة الثأر والانتقام، وهي الصفة التي ألّبت معظم العراقيين على النظام السابق.
وللتاريخ أقول إنني قلت في إحدى جلسات النقاش حول مستقبل العراق في واشنطن إن أكثرية العراقيين أجبرت بطريقة أو بأخرى على الانتماء إلى البعث وإن على النظام الجديد أن لا يعاقبهم على ذلك، فحزب البعث كان الحزب الوحيد المسموح له بالعمل في العراق، وكل من أراد أن يشارك في الحياة العامة في تلك الفترة كان مضطرا لأن ينتظم في صفوفه. كما طالبت أيضا بعدم حظر حزب البعث وقلت: «أمنيتي أن أعرف كم عدد الذين سينتمون إلى حزب البعث بإرادتهم بعد إزالته من الحكم». فأجابني مسؤول أميركي «ثمانية أشخاص فقط». فأجبته «لماذا إذن الخشية من ثمانية أشخاص»؟
كانت مهمتي بعد التغيير أن أكون ناطقا باسم مجلس الحكم، أُعلن عن كل سياسة وأدافع عنها حتى لو كان لي فيها رأي آخر، وقد فعلت، لكنني لم أستطع أن أدافع بقناعة عن اجتثاث البعث وظللت أشرح للناس أن العدالة ستأخذ مجراها في نهاية المطاف وعليهم أن يصبروا قليلا كما صبروا سابقا. أينما ذهبت في العراق في تلك الفترة واجهتني مشكلة موقف النظام الجديد ممن انتموا إلى البعث، وكنت اتيقن أكثر فأكثر أن تلك السياسة التي تبناها مجلس الحكم والإدارة الأميركية لم تكن خاطئة فحسب بل غير مسؤولة ومضرة على الأمد البعيد. أتذكر أنني تحدثت مع الدكتور أحمد الجلبي مطلع عام 2004 عن مضار هذه السياسة، وقلت له إنه سيتضرر شخصياً من جرائها لأنها ستعطي صورة عنه وكأنه يريد الانتقام ممن انتموا إلى حزب البعث وأفراد عائلاتهم. قال لي: ما العمل إذن؟ وما الذي تقترحه علي؟ فقلت: إلغاء قانون اجتثاث البعث كلياً والتعامل مع الناس على أساس المواطنة من دون تمييز لأسباب سياسية، أما من ارتكب جريمة من البعثيين أو غيرهم فيجب التعامل معه قضائياً». قال لي الجلبي: «إن قانون الاجتثاث هو لحماية البعثيين لأن الناس سيلجأون لأخذ الثأر بأيديهم إن لم يُعاقَب البعثيون المسيئون»، وقال إنه يستخدم حقه القانوني يوميا ليستثني العشرات من قانون الاجتثاث ويسمح لهم بالعودة إلى وظائفهم. وهذه حقيقة رأيتها بنفسي لكن المطلوب كان وجود قانون عادل يتعامل مع الجميع على حد سواء وينظر إلى المستقبل بدلاً من الماضي.
استبدل قانون الاجتثاث الآن بقانون «العدالة والمساءلة» بعدما أدرك الجميع أنه أضر بالبلد وأضعف النظام الجديد وفرق الناس وأعطى صورة قاتمة عن التغيير والديمقراطية، معلمها الأول الثأر والإصرار على إبقاء العراقيين في الماضي بدلاً من الانطلاق بهم إلى المستقبل. ألغي قانون الاجتثاث بعد أن ساهم في توحيد المنتمين إلى حزب البعث مع أقاربهم وأصدقائهم والمتعاطفين معهم في خندق واحد وهو معاداة النظام الجديد، وما كانوا ليفعلوا ذلك لولا هذا القانون الذي نبههم إلى أن مستقبلهم ليس بخير فلماذا يتعاونون مع نظام لا يريد لهم الخير؟ كانت مقاصد قانون اجتثاث البعث إنصاف ضحايا النظام السابق، ومنع تكرار ما حصل على يده من جرائم شنيعة، ولا يعارض ذلك أحد، ولكن هل من الإنصاف خلق مزيد من الضحايا؟
كان يجب أن يغادر قانون «المساءلة والعدالة» الماضي بكل سلبياته إلى فضاء المستقبل الرحب، لكنه أبقى على التشدد في القانون السابق وقنّنه وحرم الذين غادروا العراق من حق التقاعد واستثنى مجموعة «فدائيي صدام» من أي حقوق، ووضع قيودا يصعب الوفاء بها بل ستبقي المستفيد من القانون مواطنا من الدرجة الثانية. مشكلة قانون الاجتثاث، التي اعترف بها بريمر، أنه عهد بتطبيقه إلى سياسيين ينتمون لأحزاب أخرى مما أبقى الباب مفتوحاً أمام اتهامات التمييز. هذه المشكلة لم يعالجها القانون الجديد إذ ليس فيه نص يمنع المنتمين للأحزاب السياسية الحالية أو مؤيديهم من تولي المناصب الإدارية في الهيئة الجديدة، رغم وجود نص يمنع البعثيين من العمل فيها، مما يعني أن الباب سيبقى مفتوحاً أمام الاستغلال السياسي للقانون. بإمكان البرلمان أن يعدل القانون لاحقا لتخفيف تأثيراته السلبية المحتملة على المجتمع العراقي، آخذا في الاعتبار أن عدد الذين انتموا لحزب البعث وأفراد عائلاتهم وأقاربهم وأصدقائهم ربما بلغ الملايين، لكن بإمكان رئيس الوزراء أن يتجاوز هذه العقبة بتعيين أشخاص معروفين باستقلالهم السياسي كي يكون التطبيق مجردا من أي اعتبارات أخرى. آمل أن يفعل ذلك من أجل المصالحة الوطنية خصوصا بعد أن أدرك الجميع أن المشكلة العراقية لن تُحل بالثأر أو الانتقام من الآخر عند التمكن منه بل بالتسامح وطي صفحة الماضي.
حميد الكفائي