دول كثيرة تطورت وأصبحت تنتج الصناعات الثقيلة والأجهزة الدقيقة دون أن يكون لديها مصادر طبيعية تسندها. اليابان مثلا بلد يقوم على الصناعة والمصدر الأهم المتوفر لديه هو الموارد البشرية الخلاقة التي استثمرت فيها الدولة على مدى عقود من الزمن فأتت أكلها بعد حين وخلقت اقتصادا متينا من لا شيء غير وجود طبقة متعلمة وهوية وطنية متماسكة وتصميم على احتلال مكانة مرموقة بين دول العالم. الكثير من الدول تحسد، أو تغبط، اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان وسنغافورة والبرازيل على الإنجاز الاقتصادي الكبير الذي حققته عبر تطوير مشاريع صناعية ضخمة وقادرة على التنافس في أوروبا وأمريكا.
نعم هناك حاجة لرأس المال لبناء اقتصاد ديناميكي متطور وقائم على العرض والطلب، لكن المال المستحصل عبر الاقتراض هو أفضل من المال المتوفر من المصادر الطبيعية والذي يعطى في كثير من الأحيان دون ضوابط أو معايير اقتصادية مدروسة. بعض الدول النفطية أنفقت مليارات الدولارات على مشاريع فاشلة كتنمية الزراعة في الصحراء أو خلق صناعات لا حاجة حقيقية لها أو غير قادرة على التنافس عالميا. كثيرون من رجال الأعمال يقترضون حتى مع توفر المال لديهم لأنهم يريدون التأكد من جدوى مشاريعهم عبر موافقة البنوك على تمويلها ويسعون نحو شراكة مع مؤسسات أخرى قادرة على رفدهم بالدراسات والإرشادات والتقويم المتواصل. فإن قدمت البنوك لها الدعم المالي فمعنى ذلك أنها ذات جدوى وأنها سوف تنجح وهذا يعطيها في الوقت نفسه صدقية عالمية ويزيد من ثقة الأسواق بها. لا مشكلة لدى أي مشروع ناجح في دفع الفوائد المترتبة على القروض التي يحتاج إليها، لأن المشاريع الناجحة قادرة على تمويل نفسها بنفسها وتعتبر دفع الفوائد أمرا عاديا لا ضرر فيه فهو جزء من كلفة الإنتاج وهي تحقق أرباحا أكبر بكثير من قيمة التكلفة.
بعض الدول حاولت أن تنمي الصناعات البديلة للواردات ظنا منها أنها سوف تتمكن من خلق اقتصاد متين عبر استبدال الواردات بمنتجات محلية الصنع. لكن النتيجة أن هذه المشاريع فشلت لأنها أساسا لم تأتِ عبر التطور التلقائي للصناعة وتراكم الخبرات بل لرغبة سياسية حفّزها، إن لم نقل صنعها، توفر المال المستحصل من إيرادات النفط. الصناعت البديلة للواردات فشلت لأنها اعتمدت على استيراد قطع الغيار من الخارج وتجميعها داخل البلد واستقدام الخبراء الأجانب كي يساعدوا على تجميعها وتسويقها وانخراط العمالة الوطنية غير الماهرة وغير الخبيرة في تجميعها وإعدادها. إنها في الحقيقة لا تعدو عن كونها أكثر من خداع للنفس عبر التصور أن البلد الفلاني صنع سيارة أو ماكنة أطلق عليها اسما وطنيا يرسخ تلك الخدعة في نفوس المواطنين.
الأضرار المترتبة على تلك الصناعات المحكومة بالفشل أساسا كثيرة، منها مثلا ارتفاع كلفة الإنتاج بسبب اعتماده على الواردات وعدم قدرة المنتج محليا على التنافس مع المنتجات العالمية. وقد قادت هذه الإجراءات بعض الحكومات إلى اتخاذ إجراءات حمائية زادت الطين بلة وخلقت من هذه المنتجات المحلية عبئا على الاقتصاد الوطني.
إضافة إلى ذلك فإن تسبب تلك الصناعات التجميعية في زيادة كفة الواردات قد أخل بالميزان التجاري للدولة المنتجة لها وتسبب في خفض سعر عملتها الوطنية ورفع أسعار الواردات الأخرى التي تعتمد عليها صناعتها وفي النتيجة حصول تضخم وخلل في الاقتصاد يحتاج إلى جهود وأموال أخرى لإصلاحه. وفي النتيجة فإن تلك الصناعات الوطنيةً المختلقة عبر تبذير المال والجهد تصبح عبئا على البلد وتضطر الحكومات لاحقا للتخلص منها بطريقة أو بأخرى كي تحد من خسائرها.
هناك حاجة لأن تجد الدولة مجالات حقيقية للاستثمار وطرقا مدروسة لإنفاق الأموال المتأتية من ريع المصادر الطبيعية كالنفط لأن إنفاقها على توسيع الأجهزة الحكومية دون أن تكون هناك حاجة لها لن يأتي بفائدة على الأمد البعيد بل إنه سيخلق مجتمعا استهلاكياً اتكالياً غير مستقر وهذا سجل الدول النفطية الفاشل أمامنا إذ لم تساهم الثروة النفطية في بناء اقتصاد متين قادر على الاستمرار بعد انتهاء النفط أو تناقص أهميته العالمية. لقد أدرك قادة بعض الدول الريعية أنهم بحاجة لأن يركزوا على مجالات أخرى لتنمية الاقتصاد.
وما نراه اليوم من تطور عمراني في دبي مثلا هو استثمار في المستقبل الذي ستلعب به دبي دورا مهماً لأنها أصبحت مركزا تجاريا وخدميا لدول العالم المختلفة. الشركات العالمية بدأت تفتح مكاتب لها في دبي، ووسائل الإعلام العربية والأجنبية هي الأخرى اتخذت من دبي مقرا ومنطلقا لها، والمؤتمرات واللقاءات الدولية أصبحت تعقد في دبي بسبب موقعها الجغرافي الاستراتيجي بين الشرق والغرب ولأنها تمتلك البنى الأساسية المطلوبة من فنادق حديثة وطرق مواصلات متطورة ومطارات عملاقة وأسواق كبيرة ومنظمة وقاعات عصرية واتصالات متطورة وأمن منضبط وتعامل حضاري راق.
حكام الأمارات ودبي تحديدا أدركوا إمكانات بلدهم واحتمالاته الاقتصادية الواقعية واستثمروا فيها وشجعهم العالم على ذلك لأن خططهم، رغم أنها طموحة، لكنها واقعية ومدروسة وتعود بالنفع على الجميع. بإمكان العراق أن يلتفت إلى إمكاناته واحتمالاته الاقتصادية الواقعية ويطورها ويتحرر من عقد الماضي والمستنقع الذي وضعته فيه الأنظمة السابقة والذي لا يزال يحكم تفكير الكثيرين من صنّاع القرار حالياً.