والمناوأة هنا معقّدة تجمع بين الازدراء والحسد في موقف واحد. فالثقافة السياسيّة التي أخذت بها تيّارات الأكثريّة السنّيّة تلتقي روافدها عند تقديس الكثرة وتمجيد القوّة، وهذا من دون اعتناء بالدروس التي تقول العكس وتعيّن أضرار القوّة والكثرة هاتين.
ذاك أنّ «الأمّة» كبيرة، وكلّما ازدادت كبراً كان ذلك أفضل في نظر دعاتها. وهي أصلاً أمّة المسلمين أو «جماعتـ» هم، فيما المسيحيّون «أقليّة» تعيش على هامشها وتُتّهم، في الوعي التآمريّ، بالتلصّص عليها. ثمّ إنّ «الأمّة» تُعدّ الجيوش الجرّارة، أو تفرح بإعدادها، دفاعاً عن «الثغور»، أو لتحرير «المقدّسات». والمسيحيّون، مرّةً مضطرّين ومرّةً مختارين، ينأون بأنفسهم عن الجيوش وعن مصادر القوّة والتغلّب.
لكنّ هؤلاء المسيحيّين يبدون للمسلمين، لا سيّما أكثريّتهم السنّيّة التي صاغت معظم وعيهم الحديث، فضلاً عن القديم، أقوياء بطريقتهم الخاصّة. فمن جهة، هم يتمتّعون بمستوى معيشة وبنمط حياة يحضّان على تقليدهما واعتمادهما مرجعاً وقياساً. ومن جهة أخرى، هناك عالم «مسيحيّ» وراء البحار يتراءى لبعض المسلمين أنّه يسند «نصارى الشرق» ويشدّ أزرهم. وقد لجأ المسيحيّون لتبديد هذه الرواية إلى المبالغة في إظهار عدائهم للصليبيّين من دون أن يخفّف ذلك من اتّهامهم المداور، وأحياناً المباشر، بـ «الصليبيّة».
على أنّ مستوى المعيشة والإلحاق بالغرب هما من نتائج الاتّصال بأوروبا وبالحداثة ممّا بدأ مع عصر «التنظيمات»، وكان من تعابيره احتلال «النصارى واليهود» العرب مواقع في المهن الحديثة الناشئة، التعليميّ منها والماليّ والخدميّ.
وقد طوّر عالم الإسلام السنّيّ في المشرق «علاجين» يكافح بهما شكلي القوّة هذين: من جهة، شُحذ الرفض الأخلاقيّ والعمليّ لأشكال الوساطة مع الغرب تعليماً واقتصاداً. فلم يكن مصادفاً بالتالي أنّ الحركات الراديكاليّة العسكريّة، مستفيدةً من غطاء أيديولوجيّ وفّره اليسار الشعبويّ والسوفياتيّ، بادرت إلى ضرب التعليم الأجنبيّ ومؤسّساته كما أحدثت، بذريعة الاستقلال وبإجراءات التأميم، انقطاعات جدّيّة عن السوق العالميّة، وعن الوساطة معها تالياً. وكان الهجاء الذي استهدف لبنان الوساطة والخدَمات، أو ذاك الذي استهدف «الكومبرادور» المرذول، الشكلين المؤدلجين لإدانة تلك الوظيفة المسيحيّة أساساً وللتنصّل منها. لكنّ الأسوأ، من جهة أخرى، أنّ العجز المسلم أمام الغرب، كثيراً ما ترافق مع استئساد على الأقليّات الدينيّة. ولئن أُسّست هذه المقاربة مع بدايات رضوخ السلطنة العثمانيّة لأوروبا، على ما تجلّى في المذابح التي نزلت بالمسيحيّين واليهود في دمشق، أواسط القرن التاسع عشر، فقد بلغت سويّةَ انحطاطها الكاريكاتوريّ مع حافظ الأسد الذي طبّق، رغم أقليّته، مبدأً أكثريّاً. فهو جعل المسيحيّين مادّة للمقايضة الصريحة مع الولايات المتّحدة والدول الأوروبيّة: يقدّم «حمايتهم» و «سعادتهم» ورقةً يحسّن بها شروط علاقة الخارج به، وعلاقته بالخارج، ثمّ يضيّق عليهم، لا سيّما في لبنان، كي يوصل إلى الغربيّين «رسالة» كالحة ومتجهّمة.
لكنّ الأفكار وجدت لها أمكنة أخرى في هذا التكارُه الصامت والمتبادل. ذاك أنّ اللغة المسلمة عن التعايش، وأحياناً عن الحماية والذمّيّة، لا تخفي الإعلان عن أنّ القوّة تقيم في شطر بعينه من المجتمع، فيما يقيم في الشطر الآخر ضعف يُطالَب أصحابه بالتوافق والقبول. ويقول لنا تاريخ لبنان الحديث، أقلّه منذ عزل الكتائب في 1975، كم أنّ هذه عدّة سياسيّة مسلمة لا يمكن أيّاً كان أن يتخيّل استخدامها من جانب مسيحيّ. فالأخير، في المنعطفات الحسّاسة، يُعزل ولا يعزل.
ولئن شكّل توازن القوى هذا، وهو ثابت الاختلال، واحداً من أسباب الهجرة المبكرة للمسيحيّين، فقد أُخذت عليهم الهجرة لأنّ المسلمين السنّة لا يهاجرون تقليديّاً. فالأخيرون، إذاً، وعلى نحو قاطع، أهل «الأمّة» والرسوخ في الأرض، مقابل عابرين وطارئين لا يجدون غضاضة في العيش بين الأغراب. ثمّ إنّ المسيحيّين إذا انتموا أو أبدوا الولاء لهذه «الأمّة» فإنّما يتّجه ولاؤهم إلى ما يقدّمها مجزّأة متنافرة، كالطبقات أو التقدّم الذي يخلّ بالتقليد والعراقة، فيما «الأمّة»، وفق التصوّر السنّيّ المتوارث، واحدة لا يسري عليها الانقسام، وموحّدة تستأنف ذاتها أكثر كثيراً ممّا تتجاوزها.
غير أنّ المسيحيّين حين يفعلون هذا يتطرّفون فيه كما يتطرّفون في كلّ شيء آخر يوالونه بما فيه الوطنيّة. وهو تطرّف يتبدّى للأكثريّة كأنّه مزايدة عليها حين تبادر، أو كأنّه توريط لها حين تتردّد.
فوق هذا فوجود الأقليّات، مجرّد وجودها، تذكير مقلق بأنّ هناك تاريخاً سابقاً على الإسلام. وإذا كان اليهود وحدهم قد أرفقوا هذا الاستمرار بإحياء لغته العبريّة، فإنّ الوجود الأشوريّ والكلدانيّ، وبقايا الألسنة السريانيّة والأراميّة، هي ممّا لا يهدّئ الخاطر الأكثريّ. والقلق حيال الحاضر قابل دوماً أن يستولد قلقاً حيال الموقع في الماضي والتاريخ.
هكذا يلوح أحياناً للعين الأكثريّة الشكّاكة أنّ المسيحيّين يستحضرون الموتى في مواجهة الأحياء، تماماً كما يستحضرون الفرد في مقابل الجماعة، والقليل في مقابل الكثير. وبفعلهم هذا، يُتّهمون بالاستقواء على نخبويّة لا تخفي أنانيّتها، تقيس بمقياسها كلّ شيء آخر. والحال أنّ النخبويّة هذه هي ما تميل تيّارات في الأكثريّة إلى تأويلها عنصريّةً. فالمسيحيّ المضطهَد دينيّاً وطائفيّاً يردّ بالتعالي الذي يرى إلى مصالح الناس قاطبة من ثقب مصلحته المباشرة، أو ما يتراءى له أنّها مصلحته. وتبادل هذه السلع المسمومة بين ملل المشرق ونحله لا يُفرح القلب طبعاً. إلاّ أنّه آن أوان وضع المشكلات على الطاولة، وتسميتها بأسمائها الفعليّة، بعيداً من تبسيط القشرة التي تواكب اللغة المقبولة، الرسميّة عند الأنظمة كما عند بعض معارضيها. وهي لغة تنفجر اليوم تـــحت أعيننا وأنوفنا.