أمضيت الأسبوع الماضي في مصر من أجل الاطلاع عن قرب على ما يجري هناك في مرحلة حاسمة. ومصر لا تخص المصرين فحسب فهي قلب الوطن العربي والبلد الأكثر تأثيرا في الثقافة والسياسة العربيتين لذلك فإن شأنها يهم كل عربي وما يجري فيها يؤثر بدرجة ما على الأحداث في البلدان العربية الأخرى. التقيت في زيارتي بعدد كبير من المصريين من كتاب وصحفيين وسياسييين كما التقيت بزملاء إعلاميين قادمين من بلدان أخرى، عربية وأجنبية، لتغطية الحدث الأهم فيها ألا وهو انتخابات الجولة الثانية للرئاسة المصرية التي ستجرى على مدى يومين هما السادس عشر والسابع عشر من حزيران الجاري.المرشحان الرئاسيان هما آخر رئيس وزراء في عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك، الفريق أحمد شفيق، ومرشح حزب الأخوان المسلمين الدكتور محمد مرسي الذي يتزعم حزبا سياسيا هو الحرية والعدالة. وعلى مدى إقامتي في القاهرة، كنت أزور ميدان التحرير يوميا، صباحا ومساء، أتجول فيه واستمع إلى المناقشات الحامية الوطيس بين المتجمعين فيه، من مؤيدي شفيق ومرسي ومن الرافضين لكليهما. معظم الذين تحدثت إليهم يفضلون شفيق على مرسي، حتى بين المتدينين الذين قال لي بعضهم إنهم يؤيدون شفيق (خوفا على الدين) من الأخوان. قال لي أحدهم إن الأخوان سوف يلغون دور الأزهر الرائد في العالم الإسلامي فهم يناصبونه العداء ويعتبرونه جزءا من مؤسسات النظام السابق وهم سوف ينصبون أنفسهم قيمين على الإسلام والمسلمين، مستخدمين السلطة لتعزيز نفوذهم ومواقعهم في البلد! وقال أيضا إن الأخوان إن جاءوا للسلطة فهم سيقسمون الشعب ويثأرون من خصومهم ويغرقون البلد في الفتاوى التي ما أنزل الله بها من سلطان مستشهدا ببعض الفتاوى الغريبة التي لا علاقة للأخوان بها. بينما قال لي آخر إنه سيصوت لمرسي لأنه يخشى الله ولأنه يمثل الإسلام ولأنه سينتصر للمظلومين والمحرومين. وأضاف أن الأخوان يقدمون المساعدات للفقراء وهم خارج السلطة فكيف إذا تولوا السلطة؟ إنهم سوف يضاعفونها. وأضاف أن شفيق يمثل النظام السابق “الذي ثرنا عليه وتخلصنا منه ولن نأتي بالنظام السابق من الشباك بعد أن طردناه من الباب”. وهذه الآراء سمعتها من كثيرين من الجانبين.
الجدال محتدم بين المصرين وهو أمر طبيعي جدا في مرحة تأسيسية تنقل البلاد من حكم العسكر إلى حكم مدني ديمقراطي. والجميل في هذا النقاش أنه بين المصريين أنفسهم وليس هناك قوة ثالثة، كالأمريكان في العراق الذين ساندوا (أو اتهموا بمساندة) جهة على حساب أخرى ثم وقفوا مع الأخرى على حساب غيرها كما يتهمهم خصومهم. ورغم أنهم غير موجودين عمليا في مصر، إلا أنهم موجودون في النقاشات الدائرة بين المصريين إذ يعتقد كثيرون أن أمريكا ليست بعيدة عن الساحة السياسية بل هي تتدخل فيها كل يوم. لكن الملاحظ في الشارع المصري هو أن هناك توجسا وخيفة من حكم الأخوان بين قطاعات كبيرة من الشعب. والمخاوف متعددة ومتنوعة بل ومتناقضة في كثير من الأحيان. كثيرون يخشون على قطاع السياحة المهم جدا للاقتصاد المصري من حكم الاخوان الذين سيطبقون أحكام الشريعة التي ستحد دون شك من حركة السياحة. البعض الآخر قلق على الوحدة الوطنية والتماسك والوئام الاجتماعي بين المصريين، فحكم الأخوان المسلمين في رأيهم سوف يضيق على حياة الأقباط ونشاطاتهم الاقتصادية والسياسية وفاعليتهم في المجتمع المصري كما سيفرض الكثير من القيود (الشرعية) على المسلمين أيضا. البعض الآخر قلق من أن الأخوان سوف يلغون معاهدة السلام بن مصر وإسرائيل مما يدخل البلاد في حالة حرب مدمرة ومضرة بعلاقات مصر الدولية واقتصادها المرتبط بالاقتصاد العالمي مما سيعود بمصر إلى عقود الخمسينيات والستينيات التي سادها القلق وعدم الاستقرار. آخرون يعتقدون أن الأخوان ليس لديهم خبرة في إدارة البلاد وحفظ أمنها وأن انتخابهم هو مخاطرة لن يقدم عليها المصريون في الوقت الحاضر. بينما أشار معسكر آخر إلى تناقض خطابات الأخوان ومواقفهم، فمن زهدهم بالسلطة المعلن سابقا إلى تهافتهم عليها لاحقا.
ومن الناحية الثانية فهناك قلق بين كثير من المصريين من أن انتخاب أحمد شفيق، الذي تصر حملته الانتخابية على تسميته بالفريق، ربما لاعتقاد القائمين عليها أن التذكير برتبته العسكرية سيعزز من فرص انتخابه، سوف يعيد البلاد إلى حظيرة النظام السابق. كثيرون يعتبرون شفيق من (فلول) حكم مبارك وهو ليس ديمقراطيا ولن يمثل إنطلاقة جديدة لمصر الثورة. ويتفق في هذا كثيرون من إسلاميين وعلمانيين. فقد نصح زعيم حزب الغد الليبرالي، أيمن نور، أتباعه بالتصويت للإسلامي محمد مرسي مفضلا إياه على العلماني شفيق. وهذا هو حال كثيرين ممن شاركوا في الثورة ضد النظام السابق، فهم يعتبرون مجيء شفيق إلى الحكم عبر الانتخابات خيبة أمل كبرى لهم. لكن القلق من حكم الأخوان بين المصريين أكبر بكثير من القلق من تولي شفيق الحكم. كثيرون ممن تحدثت إليهم قالوا إنهم لا يحبذون التصويت لشفيق لكنهم مضطرون إلى ذلك لأن حكم الأخوان سيغير مصر إلى الأسوأ لأن المصريين “سيفقدون حتى الحريات التي كانوا يتمتعون بها أيام مبارك” إن جاء الأخوان إلى الحكم. ورغم ان مرسي أكد مرارا على أنه لن يمس الحريات ولن يفرض حكم الشريعة على البلاد وسوف يحتكم إلى الدستور والقانون، إلا أن كثيرين لا يصدقونه ويعتقدون أنه سيكون “أداة طيعة بين المرشد العام للأخوان المسلمين، محمد بديع، الذي لا تهمه صناديق الاقتراع بقد ما يهمه تطبيق أيديولوجية الأخوان في الحكم”. قال لي أحد الصحفيين المخضرمين “نحن بين خيارين أحلاهما مر. إن جاء الأخوان فسوف يحكمون كطالبان وسوف تشتد المزايدات بينهم وبين التيار السلفي المتشدد المتمثل في حزب النور. وإن جاء شفيق فإنه ينتمي إلى النظام السابق ولا نعرف إن كان سيغادر مبادئ وطرق ذلك النظام في الحكم أم لا وهل سيقضي على الفساد أم يتستر عليه. لكن أكثر المصريين سوف يلجؤون اضطرارا إلى شفيق خوفا من حكم الأخوان الذي سيلقي بهم إلى المجهول”.
يبدو أن المصريين يتجهون نحو انتخاب الفريق أحمد شفيق كي يبقوا بعيدين عن تحكم المرشد، محمد بديع وتلميذه محمد مرسي، فالفريق في رأيهم سوف يضبط الأمن والنظام ويحفظ علاقات مصر مع باقي العالم وهو بالتأكيد لن يدخلهم في حرب مع إسرائيل هم غير مستعدين أو قادرين على خوضها. وسواء انتخب المصريون الفريق أم المرشد، فإن سؤالا سيبقى يدور في أذهان كثيرين وهو: لماذا بدأت الناس تخشى من حكم الإسلاميين رغم وعودهم الكثيرة بالالتزام بالدستور والقانون وتحقيق المساواة بين الناس؟ أليس في هذا عبرة لمن يصرون على إقحام الدين في السياسة؟