نحن شعوب يغلب عليها طابع العاطفة دائما، وكثيرا ما ننساق وراء عواطفنا دون تفكير بالأسباب أو تدبر بالمصلحة المتأتية من هذا الإنسياق، مما يسهل على الآخرين قراءة تصرفاتنا بوضوح ثم توجيهنا حيث يشاؤون. فلو أراد نفر من الناس في أي من بلاد الله الواسعة إحداث اضطرابات في مجتمعاتنا والإضرار باقتصادنا وإفساد حياتنا فما عليهم إلا أن يوعزوا لرسام مغمور أن يرسم صورة تستهين بمقدس من مقدساتنا أو إلى كاتب مهمل أن يكتب رواية تسيء إلى ديننا أو تاريخنا، وخلال أيام ترى الاضطرابات والمظاهرات تعم مدننا لتتعطل الأعمال وتتأجل المشاريع ويسقط مئات القتلى والجرحى وتدخل بلادنا في دوامة من الفوضى والغموض والأزمات. وأنا هنا لا أتحدث عن نظريات بل وقائع ملموسة بعضها أحداث ساخنة.
قبل أيام أقدم نفر ضال مجرم مجهول الهوية حتى الآن على هدم مرقد الإمامين علي الهادي والحسن العسكري، وهذا النفر بالتأكيد يدرك تماما خطورة وأهمية هذا العمل الشنيع، والهدف واضح لهم ولنا وهو إشعال نار فتنة طائفية بين أبناء البلد الواحد من السنة والشيعة الذين تعايشوا بسلام وأخوة منذ أربعة عشر قرنا. فالشيعة هم أهل العراق منذ فجر الإسلام وليسوا طارئين عليه، فالتشيع إنطلق من العراق إلى باقي أنحاء العالم، وما اختيار الإمام علي للعراق كمركز للخلافة وللكوفة عاصمة للدولة الإسلامية إلا دليل على كثرة أتباعه من الشيعة في العراق دون غيره من البلدان. أما السنة فقد عاشوا في العراق إلى جانب الشيعة منذ فجر الإسلام، وكان نشوء المذاهب السنية قد تبلور في العراق على يدي العالم الجليل أبو حنيفة النعمان الذي تتلمذ على يدي إمام الشيعة آنذاك، الإمام جعفر الصادق، ووقف إلى جانب الإمام الثائر الشهيد زيد بن علي في ثورته ودعوته، واقتفى أثر الحسين في مقارعة الظالمين حتى مات في سجنه في العصر العباسي.
لم يعرف المسلمون الأوائل أي فرقة رغم اختلافهم في الرأي ولم يقُدهم هذا الاختلاف إلى العداء أو الاحتراب، بل لم يتعصبوا لرأي أو فكرة، فالإمام الشافعي كان يقول “رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب” وكان يقف إلى جانب الشيعة عندما كان بعض المتطرفين يشنّعون بهم ويسمونهم بالروافض، فقد أجابهم جوابا مفحما بقصيدة خالدة أذكر منها الأبيات التالية:
يا راكبا قف بالمحصب من منى واهتف بقاعدِ جمعها والناهضِ
أعلمتم أن التشيع مذهبــــــي إني أقول به ولســـــــت بناقضِ
إن كان رفضا حبُ آل محمــــــدٍ فليشــــهد الثقلان إني رافضي
فقد دافع أحد أعمدة التسنن التشيع ولم يرَ في ذلك إلا سموا ورفعة للإسلام والأمة. وخلال هذا التاريخ الطويل، تحول الكثير من السنة إلى شيعة والكثير من الشيعة إلى سنة مرات ومرات حسب الظروف السياسية أو القناعات الفكرية وهذا هو العراق عبر التاريخ ملتقى الأفكار والأقوام والحضارات والأديان.
ومع إدراك الجميع أن وراء تفجير مرقد الإمامين هدفا خبيثا ودنيئا وهو إثارة الاقتتال بين السنة والشيعة وزعزعة استقرار العراق ووأد العملية الديمقراطية في المهد وتأخير عجلة التقدم والبرهنة على أن العراق لا يحكم إلا بالدكتاتورية، فإن البعض منا قد وقع في الفخ الذي خطط له منفذو التفجير وسمح لعواطفه أن تتغلب على حكمته وأهوائه أن تتحكم بأفكاره وعضلاته أن تسير عقله لتحول أفعاله إلى انفعالات. إن هذه الحالة العاطفية الانفعالية المسيطرة علينا منذ زمن بعيد، والتي يعتقد البعض أنها مفيدة ويعمل على إذكائها، سوف تبقينا ضعفاء وتضع أجندتنا بأيدي أعدائنا وتجعل زمام أمورنا بأيدي سفهائنا. إن نحن لم نغادرها فلن تقوم لنا قائمة ولن يثق بنا أحد ولن نتقدم خطوة إلى الإمام لأننا سوف نضيع سنينا من التقدم في لحظة إنفعال واحدة. كم مرة هُدم قبر الإمام الحسين عبر التاريخ؟ فهل أضر هذا بموقع الإمام الحسين ومكانته عند المسلمين وغيرهم؟ أم بقي الحسين منارة يهتدي بها بنو البشر جميعا في إقامة العدل ورفض الظلم؟ هل بقي قبر الحسين مهدما بعد هدمه، أم بٌني بالذهب والفضة ووضعت فيه أغلى النفائس وسيج بأثمن الأبواب وزين بأجمل الزخارف وأفضل اللآلئ؟ بل أقيم للحسين مقامات ثلاثة على الأقل في العالم العربي يؤمها الناس ليل نهار وسميت باسمه آلاف المراكز الإسلامية في مختلف أنحاء العالم. إن وراء بناء المرقد فكرة هي أهمية أفكار وسلوك الشخص الذي شُيِّد من أجله المرقد، ووراء إقامة المسجد فكرة هي عبادة الخالق الذي يستحق العبادة، وإن هُدِم المرقدُ أو المسجدُ ألف مرة، فإنهما سوف يُبنيان في كل مرة أفضل من السابقة ما زالت الفكرة قائمة وما زال هناك مؤمنون بها.
مرقد الإمامين الهادي والعسكري سوف يُشيد من جديد دون شك، وسيكون بناؤه هذه المرة أفضل بكثير مما كان عليه قبل الهدم، والذين هدموه يعرفون ذلك جيدا لكنهم راهنوا على دفع الشيعة والسنة إلى الاقتتال فيما بينهم، وقد تحققت أهدافهم ولكن جزئيا، فالبركة كل البركة في العقلاء والحكماء من الطائفتين الذين هبوا لبث روح الأخوة بين أبناء الشعب الواحد والوطن الواحد. لقد توهم بعض السياسيين أن بإمكانهم أن يستفيدوا من الطائفية، هذه المرة ومرات سابقة، وقد استفادوا مؤقتا وربما حصلوا على أصوات من هنا وهناك، وفازوا بمقعد هنا أو مقعد هناك، لكن المحب لبلده والمخلص لضميره ودينه يعرف جيدا أن تأجيج الطائفية، أو أي نعرة اخرى، ليس في صالح البلاد، لا الآن ولا في المستقبل، ولا يرضي الله ورسوله. إن المسؤولية الأخلاقية والشرعية والوطنية تدعونا لأن نفكر بمستقبل هذا البلد المنكوب وليس فقط بمستقبلنا كأفراد، فما قيمة مصلحة الفرد أمام مصلحة المجتمع وما قيمة المصالح المؤقتة أما المصالح العامة الدائمة.