لم تكن نبرة إعلان وزير المالية العراقي الدكتور رافع العيساوي الغاضبة قبل أيام بغريبة على العملية السياسية في العراق، المضطربة والمتعثرة منذ بدايتها قبل عشر سنوات، لكنها لم تكن لائقة بوزير عُرف بالعقلانية والمهنية طيلة عمله في حكومة السيد نوري المالكي، من وزير للشؤون الخارجية في عامي7/2006 إلى نائب لرئيس الوزراء في الأعوام /9/102008 ووزير للمالية خلال العامين الماضيين.
وسبب ثورة الوزير العيساوي على حكومته التي قال إنها “لا تستطيع العيش إلا في ظل الأزمات” هو اعتقال عشرة من حراسه للتحقيق معهم في حوادث عنف جرت في العراق خلال السنوات الماضية، وجاء أمر اعتقالهم إثر اعتراف أحد المعتقلين عليهم وبموجب مذكرات قبض قضائية رسمية أكدها الناطق باسم مجلس القضاء الأعلى عبد الستار البيرقدار.
لكن المفاجأة كانت في لجوء العيساوي، المعروف بالهدوء والموضوعية، إلى لغة متشنجة غاضبة ومتسرعة كتلك التي رأيناها في مؤتمره الصحفي والتي خاطب فيها رئيس الوزراء بـ “دولة المليشيات” مدعيا أن من اعتقل أفراد حمايته كان ميليشيا وليس جهة أمنية رسمية تابعة لوزارة الداخلية كما اتضح لاحقا. ولم يكتف الوزير العيساوي بالاحتجاج الشخصي بل سعى مع حلفائه السياسيين إلى تأجيج الاحتجاجات الشعبية في محافظة الأنبار التي اتخذت منحى طائفيا ومناطقيا خطيرا يهدد وحدة العراق ونظامه الديمقراطي.
لقد بدا العيساوي طيلة السنوات الماضية منسجما مع رئيس الوزراء نوري المالكي ومؤيدا له في الكثير من قراراته الخلافية، فقد رافقه في اجتماع مجلس الوزراء في مدينة كركوك المتنازع عليها مع إقليم كردستان، والذي قاطعه العديد من الوزراء من قائمتي التحالف الكردستاني والعراقية. كما أيد قانون البُنى التحتية الذي عارضته القائمة العراقية التي ينتمي إليها، ووقف إلى جانب المالكي في البرلمان مدافعا عن القانون وداعيا إلى التصويت لصالحه. وحتى في إجراءات سحب الثقة من الحكومة، بقي العيساوي إلى جانب رئيس الوزراء، على الأقل رسميا، في وقت سعى فيها حلفاؤه بقوة إلى إسقاط الحكومة.
إلا أن كل هذا الدعم والانسجام مع السيد المالكي وحكومته قد انقلب فجأة إلى نقد لاذع ومطالبة بالاستقالة ودعوة البرلمان إلى سحب الثقة من الحكومة، ودعوة أنصاره في محافظة الأنبار إلى التظاهر والتهديد بالعصيان المدني وقطع الطريق بين العراق والأردن. وقد تحدث بعض أتباع العيساوي بنبرة طائفية واعتبروا الأمر كله استهدافا طائفيا للسنة، مما حدا بمفتي السنة في العراق، الشيخ مهدي الصميدعي، إلى اعتبار ذلك تجاوزا على صلاحياته، باعتبار أن المفتي هو من ينطق باسم السنة كطائفة دينية، مؤكدا أن القضية سياسية ويجب أن تُحَل بين السياسيين دون إقحام المذاهب والناس العاديين فيها.
يبدو أن الظروف الأمنية والاستثنائية التي يعيشها العراق منذ عام 2003 قد اضطرت القادة السياسيين والوزراء وباقي المسئولين إلى الاعتماد كليا على مرافقيهم وأفراد حماياتهم وسائقيهم إلى درجة أن ولاءهم لهم أصبح يتقدم على أي أمر آخر بما في ذلك مستقبل أحزابهم والحكومة والعملية السياسية التي يشتركون بها والتي صنعتهم أساسا وجاءت بهم إلى مسرح الأحداث. لقد فرضت هذه الظروف الاستثنائية على مسئولين كثيرين أن يطلعوا هؤلاء المرافقين على الكثير من الأسرار التي لا يُباح بها في العادة لأمثالهم ما أعطاهم قوة ونفوذا أكبر وجعل المسئولين يشعرون بالضعف في غيابهم.
فقد رأينا مرافقي مسئولين كبار يجلسون إلى جانبهم على طاولة المفاوضات في اجتماعات دولية مهمة كاجتماعات صندوق النقد والبنك الدوليين مثلا، وكأنهم خبراء في الاقتصاد والسياسة الدولية، كما رأينا مسئولين كبارا يتفاوضون مع نظرائهم من القادة السياسيين أو مع زعماء الدول الأخرى، بحضور مرافقيهم غير المؤهلين أصلا للمسئولية السياسية وغير القادرين على تحمل أعباء أسرار الدولة، بدلا من مستشاريهم أو الأعضاء القياديين في أحزابهم.
قبل سنوات خرج علينا أحد الوزراء بلهجة متشنجة غاضبة مهددا بقطع العلاقات مع دولة غربية لأن نقطة تفتيش تابعة لقوات تلك الدولة في العراق اطلقت النار على أفراد حمايته الذين لم يستجيبوا لأوامرها بالوقوف وتسببت في قتل أحدهم! أحد القادة الكبار رشّح أحد مرافقيه لمنصب أمني رفيع، دون اكتراث لعدم أهلية ذلك الشخص لتولي هذه المسئولية. كما عيَّن مسئولون كبار مرافقيهم بصفة مستشارين وبدرجات وظيفية عليا بينما توسط آخرون لمرافقيهم ليصبحوا دبلوماسيين ومستشارين في مؤسسات مهمة دون أن يحملوا أي مؤهل أكاديمي أو مهني. وقد تمسك مسئولون وسياسيون كبار بمرافقيهم على رغم علمهم بالضرر الذي يوقعونه بسمعتهم وأدائهم بسبب سوء السلوك وغياب الخبرة.
نعم هكذا هو ولاء المسئولين لمرافقيهم وحراسهم هذه الأيام وهم في أكثر الأحيان من أقاربهم ومناطقهم وطوائفهم وأحزابهم ما يستدعي الوقوف معهم مهما كانت الظروف والنتائج. قد يكون هذا الولاء بسبب الحاجة لخدمات هؤلاء في ظل الظروف الاستثنائية، وقلة الخبرة وحداثة التجربة بالنسبة إلى معظم المسئولين الحاليين، وليس بالضرورة تواطؤا معهم وإقرارا بأفعالهم، لكن بعض المسئولين لا يرى في مرافقيه إلا الخير ولا يستطيع أن يقوُّم أداءهم بموضوعية وتجرد من الولاء الشخصي. أما أولئك المسئولون الذين استخدموا حراسهم ومرافقيهم والإمكانيات التي وفرتها لهم مناصبهم لأغراض إجرامية وسياسية فلهم حديث آخر.
هل كانت ردود فعل الوزير العيساوي وأنصاره مبالغ فيها؟ نعم دون شك، ولكن هل كانت عملية دهم وزارة المالية واعتقال الحراس بالطريقة التي تمت فيها ضرورية في هذه المرحلة الخطيرة من مسيرة العملية السياسية؟ بالتأكيد لا. كان على الوزير أن يتأنى قليلا وينتظر نتائج التحقيقات الرسمية مع حراسه، حتى لو كان غير مقتنع كليا بسلامة الإجراءات، فلربما يكون بعضهم قد ارتكب فعلا مخالفة قانونية أو تواطأ مع جماعة مسلحة، فإن ثبت ذلك فلن يكون في مصلحته أن يبقي هؤلاء قريبين منه لأنهم سيكونون خطرا عليه وعلى غيره. وكان بإمكانه أن يطرح الأمر في اجتماع مجلس الوزراء المقبل بدلا من أن يعقد مؤتمرا صحفيا يهاجم فيه شركاءه السياسيين ويدين العملية السياسية التي هو ركن أساسي من أركانها، ويؤجج مشاعر أتباعه، خصوصا الطائفية منها، في وقت يحتاج فيه العراق إلى الاستقرار والتماسك الوطني.
وكان بإمكان المخططين الأمنيين أيضا أن يأخذوا بنظر الاعتبار حساسية المرحلة وخطورة بعض الإجراءات الأمنية حتى وإن بدت عادية وقانونية وضرورية بالنسبة لهم. فما أكثر الطلقاء في عراق اليوم ممن يجب أن يكونوا وراء القضبان، وما أكثر المتصدين والمتصدرين من الذين يجب أن يتنحوا ويتأخروا. إقامة العدل أمر جميل، لكن تحقيق الأمن والسلم والرخاء في بلد ينزف منذ عقود هو بالتأكيد أجمل وأنفع. إن الضعف السياسي الذي يعاني منه بعض السياسيين الحاليين قد جعلهم يحتمون بطوائفهم وعشائرهم وأقاربهم وهذا تأسيس خطير لدولة مهلهلة ضعيفة ومجتمع منقسم يسوده القلق والريبة. ما هكذا تؤسس الدول الحديثة يا ساسة العراق.