على رغم الثغرات الكثيرة في الدستور العراقي والتي تحدث عنها كثيرون، بمن فيهم كاتب السطور، فإنه كان واضحاً في مسألة ولاية رئيسي الجمهورية والوزراء. فقد حدد الأولى بدورتين أمد كل منهما أربع سنوات وترك الثانية دون تحديد، والسبب هو أنه لا يمكن من الناحية العملية تحديد ولاية رئيس الوزراء في النظام البرلماني الذي يخضع فيه شاغل المنصب باستمرار لاحتمال الإقالة عبر إجراء سحب الثقة في البرلمان أو إجراء انتخابات مبكرة.
وما يحسب للدستور العراقي أنه وضع آليتين اثنتين لسحب الثقة من رئيس الوزراء. الأولى تتم عبر تقديم رئيس الجمهورية طلبا إلى رئاسة البرلمان يدعو فيه إلى التصويت على سحب الثقة من رئيس الوزراء والثانية تتم عبر تقديم خمس النواب طلبا لاستجواب رئيس الوزراء في البرلمان ثم التقدم بعد ذلك بطلب سحب الثقة منه إن كان هناك ما يبرر ذلك وإن رأى النواب المستجوِبون له أن هناك غالبية في البرلمان تؤيد هذا الإجراء.
دستور بلا دستور
القانون الذي أقره مجلس النواب العراقي أخيراً، والقاضي بتحديد فترة رئيس الوزراء بدورتين ومنعه من تولي المنصب مرة أخرى إن سحبت منه الثقة في البرلمان حتى في دورته الأولى، هو قانون إشكالي وخطير وسوف يمهد لحالة مستدامة من عدم الاستقرار في العراق إن أقرته المحكمة الاتحادية وهو أمر مستبعد لسببين؛ الأول هو أن القانون مخالف للمادة (ستون أولاً) والتي تنص على أن مشاريع القوانين تقدم عبر رئاسة الجمهورية أو مجلس الوزراء حصرا. ورغم أن المادة (ستون ثانياً) تسمح بأن يقدم عشرة نواب أو أي لجنة برلمانية متخصصة مقترحاً لسن قانون جديد، لكن المقترح يجب أن يأتي عبر إحدى الآليتين الآنفتي الذكر كي يصبح مشروع قانون.
والثاني هو أن الدستور قد نص بوضوح على تحديد ولاية رئيس الجمهورية ولم يحدد ولاية رئيس الوزراء، وأن هذا القانون “فائض عن الحاجة” في الأول ولا أساس دستورياً له في الثاني. أما تحديد ولاية رئيس مجلس النواب فقد أقحم إقحاماً في القانون على ما يبدو كي تبرر رئاسة البرلمان التي طرحت مشروع القانون أساساً، أن القانون لا يستهدف رئيس الوزراء فحسب بل رئيس البرلمان أيضاً.
ولم يتوقف القانون عند تحديد ولاية الرئاسات الثلاث، بل تعداها إلى أمور أخرى تتعلق بعمل الحكومة. المادة الخامسة منه ـ مثلاً ـ تعتبر مجلس الوزراء مستقيلاً إذا شَغُر أكثر من نصف مناصب أعضائه! والمادة السادسة تتحدث عن تحول الحكومة إلى حكومة تصريف أعمال في حالات معينة. بينما المادة السابعة تمنع رئيس الوزراء من تولي المنصب مرة أخرى في حالة سحب الثقة منه حتى وإن كان في فترته الأولى! ويعُد القانون في المادة الرابعة منه ولاية رئيس الوزراء كاملة إذا انتهت بالاستقالة أو سحب الثقة أو الإعفاء أو حل مجلس النواب!
تبعات غير محسوبة
القيود التي وضعها القانون على رئيس الوزراء تجعل أداءه عمله صعباً، إن لم نقل مستحيلاً، وسينتج عن ذلك دولة غير مستقرة وحكومة ضعيفة قلقة خاضعة لأجندات الأحزاب والمجموعات الصغيرة. كما يجرد القانون البلاد من الطاقات والكفاءات السياسية عندما يمنع القادة السياسيين من تولي رئاسة الوزراء لمجرد حل مجلس النواب أو سحب الثقة من الحكومة بعد فترات قصيرة. القادة السياسيون يبرزون على مدى عشرات السنين وتبنى شخصياتهم وقدراتهم وشعبيتهم بالممارسة السياسية الطويلة، وهناك قلة من هؤلاء القادة ممن يمتلكون الحنكة والكاريزما السياسية والقدرة على الإدارة، وليس في مصلحة أي بلد أن يجرد نفسه من قادته بالطريقة التي وضعها القانون.
فالذي تسحب منه الثقة اليوم يمكن أن يستعيدها غداً، وما أكثر الزعماء الكبار الذين خسروا الانتخابات أو سحبت الثقة من حكوماتهم لكنهم عادوا بغالبية أكبر من السابق، وبين هؤلاء الزعيم التأريخي البريطاني وينستون تشرشل الذي خسر خسارة كبيرة أمام زعيم حزب العمال، كلمنت آتلي، عام 1945، والأغرب أنه خسر في العام الذي حقق فيه النصر على هتلر. لكن تشرشل عاد إلى السلطة في انتخابات عام 1951 ليقود بلاده حتى تقاعده عن العمل السياسي عام 1955. الخسارة في الانتخابات تعبِّر في الحقيقة عن موقف شعبي أكثر رفضا للزعيم السياسي من إجراء سحب الثقة، لأنها تعني أن غالبية جماهير الشعب هي التي رفضته وليس فقط خصومه السياسيون في البرلمان الذين ربما فقدوا شعبيتهم وقت حجبهم الثقة عن رئيس الوزراء، وقد يفقدون شرعيتهم في الانتخابات التي تلي سحب الثقة بينما يعود خصمهم إلى الحكم.
مسطرة القانون
قانون تحديد ولاية الرئاسات الثلاث قد صمم على ما يبدو على مقاس السياسيين الحاليين الذين يريدون إزالة المالكي بأي ثمن. وهو دليل قاطع على أنهم استسلموا لحقيقة عدم قدرة أي منهم على تولي منصب رئيس الوزراء في المستقبل وإلا لما أقدموا على إضعاف هذا المنصب المهم بهذه الطريقة. ما يواجهه المالكي حاليا من مصاعب قد يواجهه أي زعيم سياسي آخر من خصومه الحاليين إن تولى منصب رئيس الوزراء وبقي فيه الفترة التي بقي فيها المالكي في المنصب واضطلع في إدارة هذه الدولة الصعبة. القوانين في العادة لا تُسَن لأسباب وقتية ولا تستهدف شخصاً بعينه وإنما لحل مشاكل عامة ومنع حدوث مشاكل محتملة.
الاستهداف المستمر للمالكي على أيدي خصومه السياسيين قد عزز موقعه بين أنصاره ووسّع من شعبيته وأضعف منافسيه داخل كتلته وحزبه، تماماً كما حصل مع صالح المطلك قبل ثلاثة أعوام عندما اُستُهدِف ومُنِع من المشاركة في الانتخابات الماضية ليعود بعدها أقوى من السابق، إذ تضاعف عدد مقاعد كتلته في البرلمان من 11 إلى 22 مقعدا . وفي تركيا، حاول خصوم أردوغان إعاقة مجيئه إلى السلطة باستخدام القانون، لكن حزبه تمكن من الوصول إليها تحت قيادة عبد الله غول، وتمكن من إزالة العائق القانوني لعودة أردوغان الذي تولى السلطة بعد فترة قصيرة وقاد حزبه من فوز إلى آخر منذ ذلك الحين.
قانون تحديد ولايات الرئاسات الثلاث، الذي ستنقضه المحكمة الاتحادية دون شك لعدم دستوريته، يصب في هذا الاتجاه، لكن خصوم المالكي لا ينظرون بعيداً على ما يبدو. وإن لم تنقضه المحكمة الاتحادية الآن فإن البرلمان المقبل سوف يلغيه لأنه سيعيق عمل الحكومة وإدارة الدولة. مصير المالكي يجب أن يقرره الناخبون في صناديق الاقتراع وليس خصومه في دهاليز البرلمان.