تواجه حكومة المالكي الثانية اضطرابات وعوائق سياسية وأمنية منذ تشكيلها في كانون الأول ديسمبر 2010 وحتى الآن.
وأخطر ما تواجهه حالياً هو الاحتجاجات التي سادت المناطق الغربية من العراق، المستمرة منذ أواخر العام الماضي، والتي قادت إلى مواجهة دموية في الحويجة قبل أسبوعين، ثم استقالة عدد من الوزراء. بينما شكل انسحاب الوزراء الكرد منها، نتيجة للخلافات العميقة بين المركز والإقليم، عائقاً خطيراً آخر باعتبار أن التحالف الكردستاني هو أهم مكوناتها والداعم الأساسي لها منذ تشكيلها.
سبب كل هذه المصاعب الحكومية هو النتيجة غير الحاسمة التي أفرزتها الانتخابات البرلمانية لعام 2010. فقد حصلت القائمة العراقية التي يقودها رئيس الوزراء الأسبق إياد علاوي على 91 مقعداً، بينما حصلت قائمة رئيس الوزراء الحالي نوري المالكي على 89 مقعداً، أي بفارق مقعدين فقط. وحسب المادة 76 من الدستور، فإن الكتلة الأكثرعددا هي التي يجب أن تشكل الحكومة، وكانت الأنظار تتجه إلى الدكتور علاوي لتشكيلها باعتباره زعيم الكتلة الأكثر عدداً، لكن المحكمة الاتحادية فاجأت الجميع بقرارها السماح بتشكيل الكتل السياسية بعد الانتخابات ما غيّر المعادلة كليا لصالح السيد المالكي الذي تمكن من تشكيل كتلة أكبر سميت “التحالف الوطني” قوامها 139 مقعداً، اشتركت فيها باقي الكتل الفائزة بما فيها قائمة الدكتور علاوي.
وعلى رغم أن القائمة العراقية شاركت على مضض في حكومة المالكي الثانية إلا أنها في الحقيقة لم تنسجم معها بسبب شعورها بالغبن الذي لحقها إثر قرار المحكمة الاتحادية وعدم سعي رئيس الحكومة لرفع هذا الغبن بطرق أخرى. وقد أدى عدم الانسجام هذا إلى عرقلة عمل الحكومة وتلكؤها في تنفيذ برنامج عملها. ومنذ ذلك الحين والحكومة تواجه صعوبات حقيقية لأن خصومها من داخلها وخارجها يسعون للإطاحة بها ولكن دون جدوى. فقد فشلت محاولة سحب الثقة منها في ربيع عام 2012 والتي كادت أن تسقطها لولا انسحاب الرئيس جلال طالباني من المشروع الذي كان قد وافق عليه في البداية.
لم تسقط الحكومة لكنها ضعفت وكثرت مشاكلها واشتدت الخصومات بين أطرافها واتسعت الاحتجاجات الشعبية ضدها وازدادت معارضة البرلمان لمشاريعها التي توقفت تقريباً، فلم تتمكن من تمرير حتى قانون البنى التحتية الذي كان سيمهد الطريق لإنشاء العديد من المشاريع الحيوية عبر التمويل الآجل. وحتى قانون الموازنة الذي مرر دون توافق أصبح مثار خلاف وجدل حتى هذه اللحظة، خصوصاً مع التحالف الكردستاني.
وبعد أن عجز خصوم المالكي عن إزالته عبر الانتخابات والطرق الدستورية، لجأوا إلى الاحتجاجات والاستقالات والمطالبة باستقالته هكذا دون آلية دستورية أو مشروعية قانونية وقد زاد هذا من تمسك أتباعه وحلفائه به كما أحرج منتقديه ومنافسيه داخل كتلته الذين اضطروا للوقوف معه، فليس بإمكانهم أن يتخلوا عنه وهو يصارع خصومه وخصومهم في الوقت نفسه. ومن هذه الناحية فقد استفاد المالكي من معارضة خصومه السياسيين المتواصلة له لأنها دفعت منافسيه ومنتقديه من داخل كتلته لمساندته وإن كان ذلك على مضض.
المطالبة باستقالة المالكي خارج الانتخابات والأطر الدستورية لن تجدي نفعاً لأنه لن يستقيل ولن يغادر والنتيجة هي تعطيل عمل الحكومة وإلحاق الضرر بالدولة والمجتمع ككل وهذا هو بالضبط ما يحصل حالياً. لقد طالب المالكي بإجراء انتخابات مبكرة كحل لهذه الأزمة لكن خصومه لم يستجيبوا لطلبه فهم يأملون أن يضطر المالكي لتقديم استقالته قبل الانتخابات كي يعلنوا انتصارهم عليه وعندئذ تتعزز مواقعهم وقد يتمكنون من تشكيل الحكومة المقبلة أو على الأقل يكونون فاعلين في تشكيلها وإدارتها. غير أن المالكي لن يستقيل قبل الانتخابات المقبلة وهو مصر على إكمال دورته الحالية. بل إن استقالته حالياً تعني انتصاراً لقوى التطرف والجماعات المسلحة التي تحارب حكومته في جبهات عدة، والأفضل للجميع هو أن يكمل ولايته الحالية التي توشك على الانتهاء.
لم يبقَ على موعد الانتخابات المقبلة سوى عشرة أشهر، وهي فترة قصيرة جداً والأفضل لخصوم المالكي هو أن ينتظروا الانتخابات المقبلة لتحقيق طموحاتهم ويَدَعوا الحكومة تعمل قليلاً من أجل تسيير أمور البلاد المتعثرة، فإن فازوا بها فسوف يشكلون الحكومة الجديدة دون شك، وإن فاز التحالف الوطني، الذي لا يبدو أنه سيدخل الانتخابات موحداً هذه المرة بسبب وجود خلافات عميقة داخله، فإن بإمكانهم عندئذ أن يصروا على أن يترأس الحكومة شخص آخر وسيكون إصرارهم حينها في محله ولن يكون هناك من يجبرهم على القبول بالمالكي أو غيره، بل سيقتنع هو قبل غيره أن استمراره سيكون صعبا وسوف يكون هناك منافسون له من داخل كتلته يقنعونه بالتنحي، وهؤلاء صامتون حالياً بسبب التحدي الذي يواجهونه جميعاً من خارج الكتلة.
خصوم المالكي هم الذين أتوا به إلى السلطة مرة أخرى عام 2010، وكان عليهم أن يتعاونوا معه من أجل تسيير شؤون الدولة التي تعطلت بل وتدهورت بسبب الخلافات السياسية وما نتج عنها من تفاقم الوضع الأمني والاحتجاجات والانسحابات والاستقالات من الحكومة، بالإضافة إلى شغور منصبي وزيري الدفاع والداخلية حتى الآن والذي ساهم في تدهور الأمن.
مشكلة سياسيينا أنهم لا ينظرون بعيداً ولا يهمهم شيء سوى مصالحهم وطموحاتهم الشخصية والحزبية والفئوية. لا يفكرون بمصالح البلاد والعباد إلا عندما يكونون في السلطة، وحينئذ يسعون من أجلها من أجل تعزيز سلطتهم وتوسيع نفوذهم وزيادة أتباعهم. والغريب أنهم يلجأون إلى الإسلام لتبرير أفعالهم بينما الإسلام يدعو إلى خدمة المصلحة العامة والتضحية من أجلها، فخير الناس من نفع الناس والمسلم من يحب لأخيه ما يحب لنفسه. في بلداننا تتلاشى الشعارات المرفوعة أمام الطموحات الشخصية والفئوية في أول اختبار.
التصدي لإدارة مصالح الناس مسؤولية كبرى والصبيانية السياسية التي نراها تمارس في العراق اليوم سوف تحرق الأخضر واليابس وتعيد الجميع إلى نقطة الصفر، والمطلوب من الجميع صحوة كاملة وتغيير جذري في السياسات والأشخاص، لكن ذلك لن يحصل فالثقافة السائدة لا تسمح به ولا تشجع عليه. ثقافتنا تعتبر المساومة والتنازل وفسح المجال للخصم قيماً سلبية، بينما ترى في المواجهة والإصرار على المواقف وإلحاق الهزيمة بالآخر بطولات عظيمة.