الحياة الجمعة ٣١ أيار-مايو ٢٠١٣
ليس مبالغة إن قلنا إن العراق يمر بأخطر مرحلة في تأريخه الحديث والخطورة هنا لا تكمن في احتمالات الانقسام والتشرذم فحسب، بل في احتمالات الحرب الأهلية التي تدمر مستقبل البلد لعدة أجيال مقبلة. وأخطر ما في هذا السيناريو هو أن معظم القادة السياسيين الذين بأيديهم الحل لا يدركون خطورة الوضع ولا يحركون ساكناً أو يسعون لتذليل المشاكل المتفاقمة، وهي معظمها سياسية.
التأجيج في المنطقة الغربية وصل أوجه مؤخراً، فقد أعلن النائب أحمد العلواني قبل أيام أن هناك خيارين لا ثالث لهما أمام «أهل السنة والجماعة»، فإما «المواجهة المسلحة مع الحكومة أو تشكيل الأقاليم»!
لا أدري كيف يسمح سياسي ونائب برلماني لنفسه أن يجعل المواجهة المسلحة بين الناس والحكومة «خياراً» يلجأ إليه لتحقيق أهدافه؟ كما لا نعرف من الذي نصبه ممثلاً لـ «أهل السنة والجماعة» أو ناطقاً باسم «المحافظات الست المنتفضة»؟ العلواني يعتقد طبعاً أنه سيستفيد من هذه (المواجهة المسلحة بين أهل السنة والجماعة والحكومة)، فهو شخصياً لن يشارك فيها ولن يتضرر منها بل يؤججها ليموت فيها الآخرون، بينما يستخدمها هو ومن سلك طريقه للمزايدات السياسية. وأغرب ما قال في بيانه العتيد إن الحكومة «تسعى إلى الخيار الأول» وهو الحرب مع شريحة مهمة من شرائح المجتمع العراقي!
الحكومة الحالية لديها مثالب كثيرة، بعضها مفروض عليها والآخر بسبب سياساتها الخاطئة والتشنج الذي يبديه بعض أعضائها ومستشاريها، ولكن يجب القول إنه ليس هناك حكومة في الدنيا تسعى إلى المواجهة مع شعبها. نعم، قد تضطر إليها ولكن لا تسعى نحوها بل تحاول تجنبها بما تمتلك من وسائل. إن كان العلواني حقاً يؤمن بذلك فهو يفتقر إلى أساسيات العمل السياسي، وإن كان لا يؤمن به لكنه يقوله بهدف التأجيج فهو في الحقيقة يخدع جماهيره ويستخدمها لتحقيق أهداف غير معلنة.
لكن الخلاف الذي اندلع في نهاية العام الماضي بين الشركاء السياسيين وصل الآن إلى مرحلة المواجهة فعلاً، فقد عادت عمليات الخطف والقتل والاغتيال إلى محافظة الانبار بعد أن كانت من أكثر المحافظات أمناً، بينما توقف فيها ٢٢ مشروعاً خدمياً وفق الإحصاءات الرسمية. كما اجتاحت بغداد وبابل والبصرة وديالى موجة من التفجيرات عبر الأحزمة الناسفة والسيارات المفخخة لم تشهدها منذ الحرب الأهلية في 2005 و2006.
المتطرفون، وهم أقلية، يحاولون اختطاف المشهد وفرض أجندتهم على باقي المواطنين العاديين الذين لا يريدون إلا الاستقرار ومواصلة حياتهم ضمن عراق موحد آمن، والنقطة الأخيرة ليست افتراضاً يمليه حسن الظن بل جاءت نتيجة استطلاعات وتصريحات لأبناء المحافظات الغربية. ففي استطلاع في الرمادي أجرته قناة تلفزيونية معروفة، عبر معظم الذين استطلعت آراؤهم عن رفضهم المطلق لفكرة الإقليم أو الانفصال واستنكارهم لمخططات التقسيم والتفرقة الطائفية التي يرسمها بعض السياسيين.
أهالي الأنبار والموصل وصلاح الدين معروفون بتمسكهم بوحدة العراق وقد رفضوا الدستور لأنه تضمن فكرة الفيديرالية التي اعتقدوا أنها تقود إلى تفكك العراق الذي يعتزون به ككيان وطني يشكل جزءاً مهماً من هويتهم ووجدانهم. بعض السياسيين، الإسلاميين تحديداً، يريدون جر أهل هذه المناطق إلى صراع مذهبي مع باقي العراقيين وربط الصراع في سورية بالعراق وتصويره وكأنه جزء من صراع واحد بين الشيعة والسنة. لا يمكن القول إن دوافعهم دائماً شريرة، فمنهم من يعتقد حقاً أن مثل هذه المواجهة هي في صالح شعبه ومنطقته، منطلقاً من متبنيات دينية ومذهبية. التفكير الديني المتشدد يفرض على معتنقيه الإيمان بأن الصراع بين أي مجموعتين في الدنيا هو صراع «بين الحق والباطل» ويجب أن ينتهي بهزيمة الباطل! وليس حول السلطة والمصالح ويمكن أن يحل بالتفاوض.
الحكومة العراقية لم ترتقِ حتى الآن إلى خطورة الأحداث ولم تعمل، على الأقل في العلن، بما فيه الكفاية من أجل درء هذه الأخطار الداهمة عن العراق والتفريق بين المطالب الحقيقية للأهالي وما يسعى إليه المتطرفون الذين لا يرضيهم غير الدماء والمعارك. المرجح أن الحكومة لا تمتلك حلاً، وهي ربما تنتظر أن يمل المتظاهرون من مساعيهم ثم يأتي قادتهم بحل ما للأزمة. أما إذا تدهورت الأوضاع فستلجأ إلى ملاحقة العناصر المسلحة أمنياً. لكن الحل الأمني سيجعل المزيد من المواطنين المسالمين حالياً والرافضين لمخططات التقسيم ينخرطون مع المتشددين ويمارسون العمل المسلح، خصوصاً عندما يسقط المزيد من الضحايا.
على الحكومة أن تتبنى الحل الدستوري قبل فوات الأوان وهو القبول، على الأقل مبدئياً، بالفيديرالية التي أقرها الدستور، ويجب أن تبدأ بالموافقة على طلب مجلس محافظة صلاح الدين المقدم في العام الماضي وإحالته إلى المفوضية العليا المستقلة للانتخابات التي ستجري استفتاء شعبياً عليه، ربما مع الانتخابات المقبلة أو بعدها. لم يعرف عن أهالي صلاح الدين التطرف الديني وليست لديهم أي توجهات طائفية، والتوجه الوطني لديهم واضح ومعروف. لم يلجأوا إلى العنف عندما رفضت الحكومة طلبهم بإقامة الفيدرالية في المحافظة، بل ظلوا يمارسون الطرق الدستورية والسياسية لتحقيقه.
قبول الحكومة بالفيديرالية سيدفع بالمحتجين إلى سلوك الحل الدستوري، وسوف يفوِّت الفرصة على المتطرفين الذين لا يريدون حلولاً حقيقية للمشاكل بل يسعون إلى المواجهة المسلحة التي يعتقدون أنها في مصلحتهم. إن كانت الفيديرالية المنصوص عليها في الدستور غير مناسبة، وهي كذلك، فيجب تغيير الدستور في أقرب فرصة لأن نصه الحالي إشكالي ومسبب للمشاكل.
المطالب غير الواقعية التي طرحها بعض المعتصمين أو من يتكلم باسمهم لن تجدي نفعاً لأنها لن تجد طريقها إلى التنفيذ سواء عبر الطرق السياسية أو المسلحة. لذلك فإن الأفضل أن يشكل المحتجون لجنة للتفاوض مع الحكومة، وفي هذه الأثناء يعودون إلى منازلهم وأعمالهم بدلاً من تعطيل الحياة في المحافظة وإضعافها أمام المجاميع المسلحة والتسبب في تخلفها عن باقي المحافظات. بإمكانهم أن يمارسوا حقهم في الاعتراض على أحزاب الحكومة في الانتخابات المحلية أو البرلمانية المقبلة، وهذا هو الحل الوحيد للأزمة. أما مواصلة الاحتجاجات وتعطيل الحياة فهو خيار اليائسين ولن يأتي عليهم بغير اليأس والإحباط والضرر.