تتواصل في العراق منذ أسابيع حملة تطالب بإلغاء حق النواب في الحصول على المعاش قبل بلوغ السن القانونية للتقاعد، باعتبار أن القانون الحالي ليس عادلاً لأنه يسمح للنواب بأن يتقاعدوا حينما يشاؤون بينما لا يسمح بذلك لغيرهم. ويتقاضى النواب معاشاً مدى الحياة قدره 80 في المئة من آخر مرتب لهم، وهو يعادل 8 آلاف دولار تقريباً، يحصلون عليه في أي وقت يقررون فيه التقاعد، بينما يحتاج الموظف العادي لأن يمضي ثلاثين عاماً في الوظيفة كي يستحق المعاش. وقانون التقاعد هذا لا ينطبق على البرلمانيين فحسب، بل على الوزراء ووكلاء الوزارات والمحافظين وأعضاء مجالس المحافظات وما يسمّى في العراق بـ «أصحاب الدرجات الخاصة»، وهم المعيَّنون بأوامر مجلس الوزراء ورئاسة الجمهورية.
ومع أن دوافع هذه الحملة مشروعة لأن هناك استياءً عاماً من غياب العدالة في شكل عام، إلا أن مسعى تقليص امتيازات النواب والمسؤولين لا يخدم الصالح العام على الأمد البعيد، لأنه يقلل من جاذبية المنصب ويجعله حكراً على الأثرياء الذين سيتمكنون دون غيرهم من المنافسة على المناصب العليا واتخاذ القرارات التي تحميهم وتخدم مصالحهم.
رئيس البرلمان، أسامة النجيفي، والنائب أحمد الجلبي وباقي الأثرياء في البرلمان سيرحبون بهذه الحملة وسيؤيدونها بقوة، بل إنهم مستعدون للتنازل عن مرتباتهم، لأنهم لم يسعوا إلى المناصب من أجل المرتب أو المعاش، بل لأغراض أخرى، مشروعة من دون شك. لكن الذي يخسر هو عموم الشعب الذي سيحصر السلطة عبر هذا الإجراء في أيدي شريحة معينة.
يجب أن يتمتع المنصب الحكومي بجاذبية مادية كي يتنافس عليه أصحاب الكفاءات والقدرات والخبرات، وبذلك تُتاح الفرصة لاختيار الأجدر بالمنصب والأقدر على الخدمة وليس الأقدر على تمويل نفسه وغير المحتاج إلى المرتب. الدولة العراقية لا ينقصها المال كي تسعى الى توفيره عبر تقليص حقوق موظفيها ومسؤوليها، لكن الذي ينقصها هو وجود الخبراء والمهنيين القادرين على خدمتها بكفاءة.
كما أن الأموال التي تنفق على استقطاب الكفاءات للمناصب العليا هي استثمار نافع يأتي بمردود مجزٍ للدولة والمجتمع، لأنه يأتي بالأكفأ إلى الخدمة، إضافة إلى كونه إجراءً يساعد على وضع الشخص المناسب في المكان المناسب. صحيح أن كثيرين من شاغلي المناصب حالياً، سواء في البرلمان أو مؤسسات الدولة الأخرى، ليسوا أهلاً لها، لكن الحل لا يكمن في تقليص المرتبات والامتيازات، بل في تعديل القوانين والإجراءات التي سمحت بتولي غير الأكفياء المسؤولية.
إن تجريد المنصب من مزاياه المالية والمعنوية يشجع على الفساد ويمهد للتجاوز على المال العام، لأن شاغل المنصب سيحاول بطريقة أو بأخرى أن يعوض عن خسارته المادية. كما أنه يفتح المجال للتدخل الأجنبي الذي قد يغري هذا الطرف أو ذاك بالمال من أجل التأثير في القرارات الحكومية أو التشريعات النيابية. الدولة والمجتمع لا يُخدمان عبر إفقار المسؤولين، بل عبر تقويتهم ومحاسبة المقصّرين منهم.
يجب أن نسأل أنفسنا: ما الذي سيحصل عليه المهنيون وأهل الخبرة والكفاءة من التنافس على منصب لا يجلب لهم سوى التعب والمسؤولية والمحاسبة؟ قد يقول قائل إن المنصب وُجد للخدمة وليس للإفادة الشخصية. نعم ولكن لماذا لا يكون هدف الخدمة مقروناً بالحافز المادي كي يضمن تقدُّم الأكفياء لشغل المناصب العامة بدلاً من الأثرياء والفاسدين؟
عادة ما يكون أداء القطاع الخاص أفضل من القطاع العام في الدول المتقدمة، والسبب هو أنه يستقطب أهل الخبرة والكفاءة عبر تقديم المنافع والحوافز المادية لهم، وليست هناك عصا سحرية للنجاح غير تسخير المال لجلب الأفضل والأكفأ لشغل المواقع المهمة.
لا شك في أن هناك حاجة الى تعديل رواتب المتقاعدين البائسة حالياً والتي لا تكفي لعيش المتقاعد وعائلته أسبوعاً واحداً، حتى في المدن الصغيرة والقرى النائية. قانون التقاعد الحالي يضر بالمجتمع والدولة وفيه مقدار كبير من التمييز، والقوانين في العادة لا تميز بين الناس، فلا يمكن أن يكون هناك قانون للمسؤولين وآخر للمواطنين.
كما يجب أن يكون هناك تناسب بين سِنيْ الخدمة وحجم المعاش كي يكون في مصلحة الموظف البقاء في الوظيفة لأطول فترة ممكنة كي يحصل على معاش مجزٍ بعد انتهاء الخدمة. لقد حوّل قانون التقاعد الحالي العراق إلى دولة متقاعدين شباب في وقت توجد فيه حاجة ماسة إلى من يعمل بجد ومثابرة من أجل الإعمار والبناء بعد عقود من الحروب والديكتاتورية والإهمال والمعاناة.
هناك مسألة يجب أن تؤخذ في الاعتبار وهي تتعلق بالمتصدّين للمسؤولية العليا. فالشهرة التي اكتسبوها في المنصب والقرارات التي اتخذوها أثناء وجودهم فيه والتي ربما أضرت بهذا الطرف أو ذاك، قد تعرّضهم لأخطار كثيرة بعد تركهم المنصب، خصوصاً في العراق الذي يعاني تدهوراً خطيراً في الأمن. لذلك يجب توفير الرعاية والحماية والسكن الآمن للمسؤولين والبرلمانيين والقضاة وكبار الضباط بعد مغادرتهم المنصب، لأنهم سيبقون عرضة للاغتيال والمضايقات والإهانة. على الدولة أن تكافئ من تصدى لخدمتها وضحّى بخصوصيته وأمنه من أجلها، فلا تتركه عرضة للأخطار المتولدة حصرياً من تصديه للخدمة. كرامة المسؤول، السابق والحالي، وأمنه لا ينفصمان مطلقاً عن هيبة الدولة.
لقد وجد البعض، ممن تصدوا للخدمة في فترات سابقة، نفسه في العراء بعد مغادرته المنصب، ما اضطره إلى مغادرة العراق كي يحمي نفسه. وهذا، بالإضافة إلى كونه مجرداً من العدل والإنصاف، فإنه يضعف الدولة ولا يشجع الآخرين على التصدي للمسؤولية وتطبيق القانون لأنهم سيخشون مما سيتعرضون له من أخطار لاحقاً. ومن ناحية أخرى، فإنه يشجع المسؤولين على التمسك بالمنصب، لأن ثمن تركه سيكون باهظاً.
هناك إجراءات تتخذها الدول المتقدمة لرعاية المسؤولين السابقين وحمايتهم على رغم أنها آمنة في العادة، ولا يتعرض فيها شاغلو المناصب الحاليون منهم والسابقون لأي أذى، لكن الدولة لا تتخلى عن مسؤوليتها تجاه من تصدوا لخدمتها، فهذا جزء من احترامها لنفسها والتزامها بمسؤولياتها. يجب ألا يشعر المواطن أن النائب أو المسؤول هو خصم له وأن عليه أن يسعى الى تجريده من متطلبات المنصب ومنافعه، خصوصاً في دولة غنية ويفترض أنها ديموقراطية يتبادل فيها الناس المناصب باستمرار. في إمكان الناخب أن يعاقب المسؤول المقصّر عبر محاسبته وإقصائه عن منصبه، أما إضعاف المنصب فهو إضعاف للمخلصين وتشجيع غير مقصود على الفساد.